المحور الرابع: التنظيم القانوني للعقود الإدارية الإلكترونية 

لقد ساهم التطور الهائل في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في ظهور وسائل وأدوات تكنولوجية حديثة ذات استخدامات واسعة النطاق في جميع المجالات بما فيها مجال الإدارة، الأمر الذي أدى إلى إعادة النظر في وظائف الإدارة التقليدية حتى تتماشى ومتطلبات هذا التطور الذي أتاح إجراء مختلف التعاملات الإدارية الكترونياً.

وعلى إثر هذا التطور ظهر نمط جديد للتعاقد في مجال المعاملات الإدارية على غرار العقود التجارية الإلكترونية، وهو التعاقد الإداري الالكتروني والذي كرسه المشرع الجزائري في مجال إبــرام الصفقــات العموميــة بموجب المرسوم الرئاسي 10-236 المؤرخ في 07 أكتوبر 2010 المتضمـن تنظيم الصفقـات العموميـة الملغى بالمرسـوم الرئاسـي رقـم 15-247 المؤرخ في 16 سبتمبر 2015 المتضمن تنظيم الصفقات العمومية وتفويضات المرفق العام، وكذا في القانون الجديد 23-12 المؤرخ في 05 أوت 2023 الذي يحدد القواعد العامة المتعلقة بالصفقات العمومية.

ولدراسة التنظيم القانوني لإبرام العقود الإلكترونية الإدارية، سيتم بداية تحديد مفهوم هذه العقود المستحدثة، ثم تبيان شروط إبرامها وأهم تطبيقاتها في القانون الجزائري.

المبحث الأول: مفهوم العقود الإدارية الإلكترونية  

بظهور تكنولوجيا المعلومات والاتصال وتحول أغلب الأعمال والمعاملات من الصورة الورقية إلى الصورة الالكترونية، الأمر الذي ساهم في تطويرها وإدخال مفاهيم جديدة عليها، ظهر ما يسمى بالعقد الإداري الالكتروني على غرار العقد التجاري الالكتروني، والذي أصبح يشكل ضرورة ملحة للإدارة لتكريس تحولها الالكتروني من إدارة ورقية إلى إدارة الكترونية، فما المقصود بهذا العقد؟ وما مدى خصوصيته عن العقود الإدارية التقليدية؟

المطلب الأول: تعريف العقد الإداري الإلكتروني

العقد الإداري بمفهومه التقليدي هو: "ذلك العقد الذي يتم إبرامه من طرف شخص معنوي من أشخاص القانون العام بقصد إدارة أو تسيير مرفق عمومي مع وجوب أن تظهر فيه نية الإدارة في الأخذ بأسلوب القانون العام وذلك بتضمينه شرطا أو شروطا غير مألوفة في عقود القانون الخاص".

بالنسبة للعقد الالكتروني فقد سبق وأن عرفناه بأنه:"  العقد الذّي يتم إبرامه  عن بعد باستخدام وسيلة إتصال إلكترونية سواء بين أشخاص يتواجدون في نفس الدولة أو في دول مختلفة".

أما العقد الإداري الإلكتروني فهو ذلك: "العقد الذي يبرم عن بعد من خلال وسائط الكترونية بين أحد أشخاص القانون العام وشخص آخر عام أو خاص سواء كان ذلك أصالةً أو من خلال تفويض صريح أو ضمني من الشخص العام، وذلك بهدف إدارة مرفق عام أو تسييره بمقابل، مع تضمين العقد شرطاً أو شروطاً استثنائية غير مألوفة في المعاملات الإلكترونية في القانون الخاص.

وعليه، يمكن استخلاص تعريف للعقد الإداري الالكتروني بأنه ذلك: "العقد الذي يبرمه شخص عام بوسائل الكترونية كليا أو جزئيا بقصد إدارة أو تسيير مرفق عام، على أن يلجأ هذا الشخص إلى استخدام وسائل القانون العام في إبرامه من خلال تضمينه شروطاً استثنائية غير مألوفة في القانون الخاص."

ومن هذا المنطلق يتضح أن العقد الإداري الالكتروني في مضمونه لا يختلف عن العقد الإداري التقليدي إلا من حيث وسيلة التعاقد فقط، فالعقود الإدارية التقليدية تبرم وفقا للإجراءات والطرق التقليدية التي تعمل بموجبها الإدارة الورقية التقليدية والتي تستند إلى الوثائق والمستندات الورقية، في حين يتم إبرام العقود الإدارية الالكترونية وفقا للأساليب التكنولوجية المستحدثة بموجب الإدارة الالكترونية، وذلك من خلال وسائل الكترونية بعيدة عن التبادل المادي للأوراق والوثائق اللازمة لإبرام العقد ودون الحاجة إلى التعامل المباشر بين طرفي العقد.

المطلب الثاني: خصائص العقد الإداري الإلكتروني

من خلال التعاريف السابقة، يتضح أن العقد الإداري الالكتروني يتميز بالخصائص التالية:

1-  عقد ملزم لجانبين: يعتبر العقد الإداري الالكتروني من العقود الملزمة للطرفين التي ترتب التزامات متبادلة على عاتق كل من الإدارة والطرف الآخر المتعاقد معها، وهذه العقود قد يتم إبرامها وتنفيذها كلية عبر وسائل الاتصال الالكترونية، كما قد يتم إبرامها الكترونيا أما تنفيذها فيتم بطريقة مباشرة وتقليدية.    

2-  عقد يبرم عن بعد: تتميز العقود الإدارية الالكترونية بكونها من العقود التي تتم عن بعد أو عقود المسافة، وهي ذات الخاصة التي تتميز بها العقود الالكترونية المتعامل بها في القانون الخاص.

3-  عقد واسع المجال: يتميز العقد الإداري الالكتروني بتوسع مجاله وذلك بالنظر لارتباطه بتحقيق المصلحة العامة من جهة، وبتوسع مجال الاختيار أمام الإدارة العامة من جهة أخرى، حيث أصبح بإمكان الإدارة استعراض العديد من خيارات التعاقد على شاشة جهاز الحاسوب، الأمر الذي من شأنه تدعيم مبدأ تكافؤ الفرص أمام المتعاملين المتعاقدين مع الإدارة العامة، ويفتح أمامهم المجال للعرض الواضح والمفصل لكافة منتجاتهم وخدماتهم بحرية دون أي تمييز أو قيود، كما يسمح للإدارة العامة بالاطلاع المفصل والاختيار الدقيق لما يناسبها.

4- العقد الإداري الالكتروني يتميز بطابع خاص فهو يحمل خصائص العقد الإداري من جهة، وخصائص العقد الإلكتروني من جهة أخرى، الأمر الذي يجعله يخضع لقواعد خاصة في انعقاده وطرق إبرامه.

المطلب الثالث: أهمية العقد الإداري الالكتروني

في ظل التطور التقني والتقدم التكنولوجي، اكتسب العقد الإداري الالكتروني أهمية كبرى وأصبح وسيلة جد فعالة في يد الإدارات العمومية لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، والارتقاء بجودة الخدمات العمومية، وتسهيل تلبية الاحتياجات العامة للمواطنين والمتعاملين الاقتصاديين و تقريبهم إلى الإدارة، وعموما، تكمن هذه الأهمية في:

1- التغلب على ظاهرة البيروقراطية بمختلف صورها السلبية والمحاباة والرشوة التي تشكل جرائم في مجال الصفقات العمومية ومن ثم حماية الاقتصاد الوطني من كل أشكال جرائم الفساد، حيث يعتبر العقد الإداري الالكتروني وسيلة فعالة لمساعدة الدولة في تجاوز البيروقراطية التي تعاني منها إجراءات إبرام العقود الإدارية التقليدية، مما يقلل كثيرا من الروتين الإداري الذي يعاني منه المتعاملون المتعاقدون مع الإدارات، كما يسهل ويبسط الإجراءات للإدارات العمومية وموظفيها لكونه لا يستلزم تواجد الموظف في مكتبه وقت إبرام العقد وهو الأمر الذي يخفف من الأعباء الوظيفية الملقاة على الموظفين في هذا المجال.

2- توفير التكلفة المادية على الإدارة: 

إن عملية نشر العطاءات وفق الإجراءات المنصوص عليها في إطار إبرام العقد الإداري في الصحف الورقية وإعادة نشرها لأكثر مرة في كثير من الحالات يكلف الإدارة مبالغ مالية ضخمة في إطار العقد الإداري التقليدي، إلا أن التحول إلى نظام العقد الإداري الالكتروني باستخدام أساليب النشر والإعلان الالكتروني من خلال شبكة الإنترنت يوفر على الإدارة كثيرا تكاليف النشر الورقية، ويفتح أمامها مجال نشر الإعلانات عن نية التعاقد عبر موقعها الالكتروني أو من خلال مواقع حكومية خاصة يتم استحداثها من طرف الدولة لهذا الغرض خصيصا ويبقى الإعلان منشورا على المواقع الالكترونية طيلة صلاحيته دون أي تكلفة مادية.

3- تعزيز الشفافية والمساواة في مجال العقود الإدارية الالكترونية: 

يسمح التعاقد الالكتروني بالحصول على المعلومات بكل سهولة ووضوح تجسيدا لمبادئ الشفافية في التعاقد التي ينص عليها القانون، الأمر الذي من شأنه التأثير إيجابا على صواب عمليات اتخاذ القرارات ويساهم في اختيار الإدارة العمومية المتعاقدة لمتعاملين متعاقدين أكفاء.

إضافة إلى ذلك، تساهم الشفافية في ترسيخ المساواة بين المتعاملين الاقتصاديين وطنيين كانوا أو أجانب، فكل الصفقات موجودة على البوابة إلى جانب خدماتها المعلوماتية والأجوبة التي تقدمها والبيانات المختلفة التي تضعها بين يدي مستعمليها، وبالتالي التوجه إلى حوكمة أفضل في الصفقات العمومية.

4- السرعة في القيام بالمعاملات الالكترونية التعاقدية: 

يفتح التعاقد الالكتروني أمام الإدارة باب إيصال عروضها إلى أكبر عدد من المتعاملين المتعاقدين محليا ودوليا، ويخولهم السرعة في تبادل البيانات عند إبرام العقد بصرف النظر عن مكان تواجدهم وهو الأمر الذي من شأنه توفير الكثير من الوقت والجهد للطرفين، علاوة على أنه يساهم بصورة كبيرة في السرعة في اتخاذ القرار لكونها لا تتقيد بوقت ولا مكان معين لإبرام العقود واتخاذ القرارات الإدارية المتصلة بالعقد من طرف الإدارة وهو الأمر الذي يترتب عنه إيجاد حلول للكثير من مشاكل العقود المؤجلة والمعطلة في إطار التعاقد الإداري الورقي.  

5- تعزيز الرقابة على المال العام وحمايته باعتبار أن الصفقات العمومية مجال حيوي لحركة رؤوس الأموال واستقطاب أكبر عدد ممكن من المتنافسين، من خلال نشر جو المنافسة المشروعة والحصول على عروض كثيرة ومتنوعة في ظرف قياسي، والحيلولة دون تأخر مخططات التنمية الاقتصادية للدولة.

المبحث الثاني: شروط إبرام العقود الإلكترونية الإدارية

لدراسة شروط إبرام العقد الإداري الإلكتروني سيتم التطرق بداية لأركان قيام هذا العقد ثم تحديد القيود الواردة على حرية التعاقد في إطار قانون الصفقات العمومية، وهذا على النحو التالي:

المطلب الأول: أركان قيام العقد الإداري الإلكتروني

تقوم العقود بصفة عامة بما فيها العقود الإدارية على أركان هي: التراضي والمحل والسبب، وتخضع هذه الأركان لنفس الأحكام القانونية الواردة في القانون المدني، وقد سبق ذكرها في أركان عقود التجارة الالكترونية.

وبالنظر لخصوصية العقد الإداري الإلكتروني، يطرح التساؤل حول مدى توافر ركن الشكلية في هذا العقد؟

المطلب الثاني: الشكلية في العقد الإداري الإلكتروني

تخضع العقود الإدارية كأصل عام لقاعدة التحرر من الشكليات، فإذا لم يشترط المشرع صراحة إجراء شكلياً معيناً في إبرام عقد معين، فإنه يكفي توافق إرادة الإدارة وإرادة المتعاقد معها لقيام الرابطة التعاقدية، وبالتالي يجوز التعبير عن كل منهما بالكتابة أو اللفظ أو الإشارة المتداولة عرفاً.

فما مدى تطبيق هذه القواعد على العقد الإداري الإلكتروني، وما هو الشكل المطلوب لانعقاد هذا العقد؟

للإجابة على هذا التساؤل ونظراً للخصوصية التي يتمتع بها العقد الإداري الإلكتروني فإن الكتابة الإلكترونية وللتوقيع الإلكتروني تأثير كبير على شكليات العقد الإداري الإلكتروني، لأن جميع المحررات والمستندات والوثائق التي يتبادلها الأطراف عند إبرام العقد الإلكتروني يمكن تحويلها إلى محررات الكترونية بعد توثيقها بتوقيع الكتروني محمي من طرف جهات قانونية باعتماد شهادات التوثيق، الأمر الذي يؤدي إلى اعتبار العقد الإداري الالكتروني عقداً شكلياً.

وقد أكد المشرع الجزائري على شكلية العقود الإدارية الإلكترونية من خلال نص المادة 02 من القانون 23-12 التي عرفت الصفقات العمومية على أنها: "عقود مكتوبة، تبرم بمقـابل، من قبل المــشــتــري العــمومي المــسمى "المــصــلحــة المتعاقدة"، مع متعامل اقتصادي واحد أو أكثر والمسمى "المتعامل المتعاقد" لتلبية حاجات المصلحة المتعاقدة في مجال الأشغال واللوازم والخدمات والدراسات، وفق الشروط المنصوص عليها في هذا القانون وفي التشريع والتنظيم المعمول بهما."

وهذا ما ذهب إليه كل من التشريع والفقه والقضاء عموماً من خلال وضع نظام قانوني خاص بشكليات العقد الإلكتروني وشكليات العقد الإداري الإلكتروني بصورة خاصة، من دون مساس بجوهر ومضمون العقد، وبالتالي مازال العقد الإداري وسيلة من وسائل الإدارة لأجل تحقيق المصلحة العامة، وذلك من خلال احترام المبادئ العامة لإبرام العقود الإدارية خاصةً مبدأ حرية الدخول إلى المنافسة ومبدأ السرية والشفافية، ومبدأ المساواة وتكافؤ الفرص.

المطلب الثالث: الضوابط القانونية لإبرام العقد الإداري الإلكتروني

تلجأ الإدارة لإبرام تعاقداتها من أجل تحقيق المصلحة العامة، لذلك أخضعت قواعد القانون الإداري حرية الإدارة في التعاقد لمجموعة من المبادئ أو القواعد العامة تحقيقا لهذا الغرض، وذلك على نقيض القواعد العامة في القانون الخاص التي تكرس حرية التعاقد في حدود النظام العام والآداب العامة.

يخضع العقد الإداري الإلكتروني كذلك لهذه الضوابط المقيدة لحرية التعاقد التي تقوم عليها العقود الإدارية عموماً، إضافة إلى القواعد الجديدة التي تقتضيها خصوصية العقد الإداري الإلكتروني لاسيما منها القواعد أو الشكليات المتعلقة بالتوقيع الإلكتروني والكتابة الإلكترونية.

وفي هذا الصدد، نصت المادة 05 من القانون 23-12 على أنه لضمان نجاعة الصفقات العمومية والاستعمال الحسن للمال العام، يخضع إبرام الصفقات العمومية للمبادئ الآتية : حرية الوصول إلى الطلبات العمومية (حرية المنافسة)، المساواة في معاملة المرشحين،  شفافية الإجراءات.

وعليه، تمثل هذه المبادئ ضوابط قانونية من الواجب مراعاتها في مجال الصفقات العمومية، بالإضافة إلى مبدأ السرية.

1-  مبدأ حرية المنافسة:

يقصد بهذا المبدأ إتاحة الفرصة لكل من تتوافر فيه شروط المناقصة لكي يتقدم بعطائه، وهو القصد الأساسي من جعل أسلوب المناقصة العامة الأصل العام في تعاقدات الإدارة حتى تتسع أمام هذه الأخيرة فرص اختيار أفضل المتعاقدين، ولذا فإن هذا المبدأ يجد حجمه الحقيقي بالنسبة للمناقصات العامة بصفة خاصة مقارنة بالمناقصات المحلية والمحدودة التي وإن كانت المنافسة غير غائبة فيها، إلا أنها قاصرة على أشخاص معينين ومعروفين سلفاً للإدارة.

وبالرغم من ذلك، فإن هذا المبدأ لا يعني انعدام سلطة الإدارة في تقدير صلاحية المتقدمين وكفاءتهم على ضوء مقتضيات المصلحة العامة، بل تتمتع الإدارة بسلطة تقديرية في استبعاد غير الأكفاء وغير الصالحين للتعاقد، ويمكنها استعمال هذا الحق في جميع مراحل العملية التعاقدية، سواء قبل التقدم بالعطاءات أو بعد التقدم بها وخلال مرحلة فتح العطاءات أو البت في المناقصة.

يرتبط هذا المبدأ كثيراً بمبدأ العلانية في مجال إبرام العقود الإدارية، من خلال إعلان الإدارة عن رغبتها في التعاقد مع تحديدها للشروط والإجراءات التي يتعاقد على أساسها المتنافسين معها، فضلاً عما يوفره للإدارة من اختيار أفضل للعروض.

غير أنه بعد إدخال الوسائط الإلكترونية في إبرام العقود عموماً، وإبرام العقود الإدارية خصوصاً ولاسيما العقد الإداري الإلكتروني، أثر ذلك على مبدأ حرية المنافسة الذي أصبح يطبق بشكل أوسع، مما يتيح للإدارة فرصة اختيار أفضل العروض مالياً وفنياً، حيث ساهم في فتح باب التفاوض بين الإدارة والمتعاقد من أجل الحصول على أفضل العروض، فضلاً عن أن الإعلان على شبكة الإنترنت متاحة لاطلاع كافة الأشخاص في الداخل والخارج، يعطي فرصة لجميع المؤسسات سواء كانت صغيرة أو كبيرة للاشتراك في العملية التي تتقدم بها الإدارة، وبالتالي يسهل التفاوض بينهما عن طريق البريد الإلكتروني أو الموقع الالكتروني أو المحادثة...إلخ

2- مبدأ السرية:

يقصد بمبدأ السرية في مجال المناقصات، أن توضع جميع العطاءات في الأظرفة مغلقة مجهل العلم بمضمونها بالنسبة للإدارة وبالنسبة للمناقصين فيما بينهم، وتظل كذلك حتى وقت فتح الأظرفة عن طريق لجنة الفتح.

يعد هذا المبدأ مكملاً لمبدأ الحرية في دخول المنافسة بين المناقصين، وبالتالي يشكل إلى جانب المبدأ الأول ضمانة هامة من ضمانات تحقيق المصلحة العامة في إطار إبرام العقود الإدارية عموماً والعقد الإداري الإلكتروني خصوصاً، الأمر الذي يقتضي وجوب احترامها من الكل سواء من المناقصين أو من الإدارة حتى ولو لم ينص عليها القانون، كونها من المبادئ التي استقر عليها القضاء الإداري.

وبالتالي، فإن تطبيق هذا المبدأ في مجال العقد الإداري الإلكتروني وبالنظر للخصوصية التي يتمتع بها هذا العقد، يضمن الحصول على أفضل العروض المالية والفنية للإدارة لاسيما وأن المنافسة في هذا الشأن تتم عبر وسائط إلكترونية.

3- مبدأ الشفافية:

مبدأ الشفافية يقصد به ضرورة احترام شروط ومواعيد المناقصة بالنسبة لكافة المناقصين دون تفرقة، كما لا يجوز للإدارة كقاعدة عامة أن تتفاوض مع أحد المناقصين في شأن تعديل عطائه في خارج الاستثناءات التي يقررها المشرع على هذه القاعدة العامة.

وقد كرست هذا المبدأ المادة 46 من القانون 23-12 بنصها على أنه: "يكون اللــجــوء إلى الإشهار إلزامـيا عن طريق النشرة الرسمية لصفقات المتعامل العمومي، وعن طريق الصحافة المكتوبة والصحافة الإلكترونية...يكون اللجوء إلى الإشهار إلزاميًا أيضًا عن طريق البوابة الإلكترونية للصفقات العمومية..."

4- مبدأ المساواة:

يقصد بالمساواة في هذا المجال منح نفس الفرصة لكل من يتقدم للتعاقد مع الإدارة دون تمييز في المعاملة بين شخص وآخر، بحيث لا يتم إعفاء بعض المتنافسين من شروط معينة دون الآخرين، أو طلب إجراءات إضافية من بعض المتعاقدين دون الآخرين، ويقوم هذا المبدأ على أساس وقوف الإدارة موقفاً محايداً إزاء المتنافسين، فالأصل أنها ليست حرة في استخدام سلطتها التقديرية بتقرير فئات المناقصين التي تدعوها، وتلك التي تبعدها.

وقد كرست المادة 43/2 من القانون 23-12 هذا المبدأ بنصها على أنه: يــجب أن يستــنــد تــقــيــيــم الـتـرشيـحـات إلى مـعـايـيـر غـيـر تمييزية، لها علاقة بموضوع الصفقة ومتناسبة مع مداها.

المبحث الثالث: تطبيقات العقود الإدارية الإلكترونية في الجزائر

تم تكريس التعاقد الالكتروني في مجال إبــرام الصفقــات العموميــة في الجزائر بموجب المرسوم الرئاسي 10-236 المؤرخ في 07 أكتوبر 2010 المتضمـن تنظيم الصفقـات العموميـة وذلك من خلال الباب السادس المعنون بــ" الاتصال وتبادل المعلومات بالطريقة الإلكترونية" المتضمن المادتين 173 و174، كما أكد هذا المرسوم على إنشاء بوابة الكترونية للصفقات العمومية لدى الوزير المكلف بالمالية.

 وقد تم إلغاء هذا المرسوم في 2015 بموجب المرسـوم الرئاسـي رقـم 15-247 المؤرخ في 16 سبتمبر 2015 المتضمن تنظيم الصفقات العمومية وتفويضات المرفق العام، الذي أكد المشرع الجزائري من خلال الفصل السادس منه "تبادل المعلومات بالطريقة الالكترونية" تبنيه للتعاقد الالكتروني في المجال الإداري بصورة أكثر دقة ووضوح في المواد من 203 إلى 206 منه.

وفي هذا الصدد، نصت المادة 204 منه أن وضع وثائق الدعوة للمنافسة من طرف المصالح المتعاقدة بالطريقة الالكترونية يجب أن يتم حسب جدول زمني يتم تحديده من طرف وزير المالية، ويتم الرد على الدعوة للمنافسة من طرف المتعهدين والمترشحين حسب نفس الجدول وبطريقة الكترونية أيضا، وأكد أن كل العمليات الخاصة بالإجراءات على حامل ورقي سيتم تكييفها بما يتوافق والإجراءات الجديدة المعتمدة في إطار الطريقة الالكترونية، ولاختصار الإجراءات الروتينية المعهودة في التعاقد الورقي نصت المادة 205 أن المصالح المتعاقدة وفي إطار التعامل الجديد لا تطلب من المتعهدين الوثائق التي يمكنها طلبها بالطريقة الالكترونية.

وقد أخذ المشرع ولأول مرة من خلال هذا المرسوم بموجب المادة 206 منه بنظام المزاد الالكتروني العكسي ونظام الفهارس الالكترونية للمتعهدين، الأمر الذي من شأنه اختصار العديد من الإجراءات الروتينية التي كانت تشهدها التعاقدات الإدارية لمختلف المصالح المتعاقدة وما يترتب عنها من بطء في الإبرام وتأخر في تنفيذ المشاريع والبرامج التنموية المسطرة، كما أن من شأن هذه الإجراءات الجديدة اقتصاد الكثير من الأموال التي كانت تضيعها الدولة في إطار الإجراءات الورقية السابقة في جميع مراحل التعاقد بداية من الإعلان عن الصفقات وإلى غاية تنفيذها ونفاذها.

وتأكيداً لتوجه الدولة نحو التعامل الالكتروني في المجال الإداري، صدر مؤخراً القانون الجديد 23-12 المؤرخ في 05 أوت 2023 الذي يحدد القواعد العامة المتعلقة بالصفقات العمومية، والذي كرس هو الآخر هذا النظام الجديد في التعاقد الإداري، من خلال المواد من 105 إلى 107 منه ضمن الفصل الثاني من الباب السادس المعنون بــ "الرقمنة في مجال الصفقات العمومية".

يهدف هذا القانون الجديد 23-12 إلى تبسيط مفهوم الصفقات العمومية من خلال إطار قانوني واضح وشفاف ومفهوم من الجميع يسمح بتسهيل الوصول إلى الصفقات العمومية، لاسيما  عن طريق إدراج الرقمنة و ترقية الإنتاج الوطني، وذلك استناداً إلى ثلاثة مبادئ أساسية، تتمثل في حرية الوصول إلى الطلبات العمومية، المساواة في معالجة العروض وشفافية الإجراءات.

وطبقا لأحكام القوانين سالفة الذكر في مجال الصفقات العمومية، تتمثل أهم تطبيقات العقود الإلكترونية الإدارية في الجزائر فيما يلي:

المطلب الأول: إجراء التفاوض لإبرام العقد الإداري الإلكتروني

إجراء التفاوض هو إجراء تخصيص صفقة لمتعامل اقتصادي واحد دون الدعوة الشكلية إلى المنافسة، ويمكن أن يكتسي هذا الإجراء شكل التفاوض المباشر أو التفاوض بعد الاستشارة.

1-  إجــراء الــتــفــاوض المبــاشر:

وفقاً لهذا الأسلوب تقوم الإدارة بالتعاقد مباشرةً مع شخص معين أو شركة معينة بدون الالتزام بإجراءات مسبقة كما هو الحال بالنسبة للمناقصة، حيث تتمتع الإدارة بموجبه بحرية كبيرة في اختيار المتعاقد معها لا يقيدها في ذلك سوى اعتبارات المصلحة العامة.

يعد إجــراء الــتــفــاوض المبــاشر قـاعـدة استـثـنـائـيـة لإبـرام العقود لا يمكن اعتمادها إلا في الحالات المنصوص عليها في المادة 41 من القانون 23-12، من بينها:

-      عندما لا يمكن تنفيذ العمليات إلا على يد متعامل اقتصادي وحيد يحتل وضعية احتكارية، أو لحماية حقوق حصريــة أو لاعــتــبــارات تــقــنــيــة أو ثـقـافـيـة وفـنـيـة.

-      عندما يتعلق الأمر بترقية المؤسسات الناشئة الحاملة للعلامة مقدمة الخدمات في مجال الرقمنة والابتكار، بشرط أن تكون الحلول المقدمة فريدة ومبتكرة.

-      في حالة تمويــن مــستعجل مخــصـــص لضــمــان توفير حاجات السكان الأساسية، بشرط أن الظروف التي استوجبت هذا الاستعجال لم تكن متوّقعة من المصلحة المتعاقدة ولم تكن نتيجة مناورات للمماطلة من طرفها...

يتناسب هذا الأسلوب مع طبيعة العقد الإداري الإلكتروني حيث يتم مباشرةً بين الإدارة والمرشح، وذلك بإعلان إيجابه الإلكتروني من خلال الموقع الالكتروني أو البريد الإلكتروني، وتقوم الإدارة بعدها بالتفاوض مع المتعاقد بإرسال القبول من خلال الوسيط الإلكتروني، فينعقد العقد بمجرد علم المرشح بذلك.

2-  إجــراء الــتــفــاوض بعد الاستشارة:

تنظم هذه الاستشارة بكل الوسائل المكتوبة الملائمة، ويسمح إجراء التفاوض للمصلحة المتعاقدة بالتفاوض بشأن الأسعار وشروط تنفيذ الصفقة العمومي، وتلجأ المصلحة المتعاقدة إلى إجراء التفاوض بعد الاستشارة في الحالات الواردة في المادة 42 من بينها:

-      عندما يعلن عدم جدوى طلب العروض للمرة الثانية،

-      في حالة صفقات الدارسات واللوازم والخدمات الخاصة التي لا تستلزم طبيعتها اللجوء إلى طلب عروض، وتحدد خصوصية هذه الصفقات بموضوعها أو بضعف مستوى المنافسة أو بالطابع السري للخدمات.

-      في حـــالـة صفقـــات الأشغـــال المتصلـــة بممـــارسة المهـــام السيادية للمؤسسات التابعة للدولة...

وفيما يخص العقد الإداري الإلكتروني فإن هذا الأسلوب يتناسب مع طبيعة هذا العقد ويتم بعيداً عن الإجراءات المعقدة التي تحكم العقود الإدارية، وقد تلجأ إليه الإدارة في حالات الاستعجال، أو في حالة رغبتها القيام بدراسات معينة قبل تحديد صورة النهائية للعقد.

المطلب الثاني: المناقصة الالكترونية

تعتبر المناقصة الالكترونية الأسلوب الأكثر استخداما في التعاقد الإداري الالكتروني، وتتمثل في مجموعة الإجراءات التي يحددها القانون بقصد الوصول إلى أفضل المتنافسين سعرا وشروطا للتعاقد معه، ويشكل هذا الأسلوب القاعدة العامة لإبرام الصفقات العمومية في التشريع الجزائري.

تعرف المناقصة أو طلب العروض حسب المادة 38 من القانون 23-12 بأنه: "إجراء يستهدف الحصول على عدة عروض من عدة متعهدين متنافسين  مع تخصيص الصفقة العمومية دون مفاوضات للمتعهد الذي يقدم أحسن عرض من حيث المزايا الاقتصادية، استنادا إلى معايير اختيار موضوعية، تعد قبل إطلاق الإجراء".

تأسيسا على ذلك، يعد طلب العروض الالكتروني: إجراء يتم عن طريق استعمال وسائط الالكترونية تفصح من خلالها الإدارة عن إرادتها لإبرام العقود الإدارية عن طريق المناقصة الإلكترونية، وبذلك تعد الإدارة طرف أساسي من خلال الإفصاح عن إرادتها عن طريق الدعوة للتعاقد تحدد فيها نوع العقد المراد إبرامه، من خلال الإعلان الذي يظهر النية الصريحة في التعاقد.

وتتمثل إجراءات طلب العروض الالكتروني، فيما يلي:

1- الإعلان الالكتروني عن المنافسة: الإعلان هو الدعوة إلى طلب الخدمات وغيرها من القيم المالية التي يدعون فيها المتعاقدين من خلال العقود الالكترونية التي تنفذ عبر شبكة الانترنت، وتطبيقا لذلك نصت المادة 107 من القانون 23-12 على أنه: "يجب على المصالح المتعاقدة أن تضع وثائق الدعوة إلى المنافسة تحت تصرف المتعهدين أو المرشحين لـلصفـقـات الـعـمـومـيـة بـالـطـريـقـة الالـكـتـرونـية، حسب جدول زمني يحدد بموجب قرار من الوزير المكلف بالمالية.

يجب على المرشحين أو المتعهدين للصفقات العمومية الرد على الدعوة إلى المنافسة بالطريقة الإلكترونية، حسب الجدول الزمني المذكور سابقا.

يمكن أن تكون كل عملية خاصة بالإجراءات على دعامة ورقية محل تكييف مع الإجراءات على الطريقة الإلكترونية."

وعليه، فإن الإعلان عن المناقصة الإلكترونية في العقد الإداري الالكتروني ما هو إلا دعوة للتعاقد مع الإدارة ولا يعتبر إيجابا فالإيجاب يتقدم به مقدم العطاء ويجب أن يتم وفقا للشروط القانونية، وتقوم الإدارة بالإعلان عن تقديم العطاءات عبر موقعها الالكتروني.

2- مرحلة تقديم العطاءات الكترونيا:  أجاز قانون الصفقات العمومية تقديم العروض أو العطاءات بالطريقة الالكترونية من قبل المتعهدون أو المترشحون في الصفقات العمومية، مع ضرورة أن تتضمن البيانات الضرورية كاسم الشركة أو الهيئة أو اسم الشخص الطبيعي الذي يمثلها أو البريد الالكتروني للهيئة حتى يتسنى التراسل معها.

3- مرحلة اختيار المتعاقد الكترونيا: يتم ذلك وفقا لأحكام المواد من 51 إلى 55 من القانون 23-12 فيما يخص المشرع الجزائري فيما يخص فتح الأظرفة حيث تعقد جلسة علنية ويكون ذلك بحضور مقدمي العروض أين تفتح الأظرفة المتأهلة فنيا ثم الأظرفة المتأهلة ماليا وذلك من خلال مرحلتين حيث تتدخل هذه اللجنة في إطار الرقابة الداخلية ويحدد المسؤول عن المصلحة المتعاقدة بموجب مقرر تشكيلة اللجنة في إطار الإجراءات القانونية والتنظيمية المعمول بها.

4-إرساء طلب العروض: تعتبر المرحلة التي يختار فيها المتعاقد مع الإدارة وفي مجال الإرساء وجب الرجوع إلى القواعد العامة التي تحكم انعقاد العقد الإداري الالكتروني.

المطلب الثالث: المزاد الالكتروني العكسي

تعتبر المزايدة الإلكترونية أحد الأساليب الحديثة لإبرام العقد الإداري الإلكتروني، وقد تم تكرسه لأول مرة في الجزائر بموجب المرسوم الرئاسي 15-274، حيث يتم فيه تبادل الأدوار بين المشتري والبائع على نحو تنخفض فيه الأسعار ويقوم البائع بتفويض بعضــــها على البعض عكس المزاد العادي التقليدي أين يتم عرض أسعار مرتفعة.

يقصد بالمزايدة الإلكترونية ذلك الإجراء الذي يتقدم بموجبه المرشحون لإبرام العقد الإداري بعطاءاتهم في أظرفة مغلقة وبطريقة سرية خلال مدة زمنية تحددها الإدارة ويعلم بها مسبقاً جميع المرشحين، ويقوم محافظ البيع بالمزاد العلني بالإعلان عن بدء المزاد العلني عن طريق وسيط الكتروني، ثم يبدأ التنافس بينهم حتى التوصل إلى الثمن الأقل ورسوا المزاد على ذلك.

وبالتالي فإن هذا النوع من المزايدات لا يختلف عن المزادات العلنية المعروفة في القانون المدني، من خلال التنافس بين المرشحين على منقولات معينة وأثمان مختلفة تكون في جلسة علنية يعرفها جميع الموردين، غير أنها تختلف مع المزايدات الإلكترونية بأنها تنصب على عقود التوريد بحيث تهدف الإدارة من خلالها الحصول على ثمن أقل لتوريد منقولاتها، لذا يطلق على هذا النوع من المزادات بالمزاد الإلكتروني العكسي.

نظم المشرع الجزائري إجراء المزاد الإلكتروني العكسي في مادة واحدة وهي المادة 206 من المرسوم الرئاسي 15-274، وترك مسألة تبيان كيفيات تطبيق هذه المادة إلى غاية صدور قرار من الوزير المكلف بالمالية، وهو القرار الذي مل يصدر لحد الآن، وحسب نص هذه المادة لا يتم اللجوء إلى هذا الأسلوب إلا في حالتي صفقات اقتناء اللوازم و صفقات تقديم الخدمات العادية للإدارة، وبالنظر لخصوصية هذا الأسلوب في إبرام الصفقات الإلكترونية وما يحمله من مخاطر، لم سيتم تكريسه في ظل القانون الجديد 23-12.

Last modified: Friday, 19 January 2024, 4:29 PM