الدرس الثامن
١. تكامل الشرائع الإلهية
لاشك أن النظريات الفلسفية والكلامية تنطوي على اتجاهات متنافية، بل تصل إلى حد التقاطع والتناقض، ولعلّ عالماً واحداً يبني على مجموعة من النظريات الفلسفية في زمان، إلا أنّه في زمان آخر يعكس اتجاهه بنحو يخالف تماماً ما بنى عليه سابقاً.
فالخط البياني للنظريات الفلسفية هو خطّ ذو تعرجات كبيرة وتسجل فيه اختلافات بل تقاطعات وتناقضات كثيرة جداً. إن النظرية الفلسفية عندما تأتي تهدم ما قبلها من نظريات وتناقضها وتقاطعها وتقف منها موقف المناقضة الحادّة، فلا يوجد بينها في كثير من الأحيان قاسم شترك يوحدها، أما حين نأتي إلى الشرائع الإلهية فنجدها جميعاً تسير سيراً تدريجياً نحو هدف واحد وصراط مستقيم واحد. إن المبادئ التي دعا لها الأنبياء واحدة، وإن اختلفت في بعض التفاصيل وفقاً لمقتضيات المراحل والأزمنة؛ فالتجديد في الشرائع والكتب إنّما كان تبدل حاجات البشر من مرحلة إلى أخرى، ففي كل مرحلة جديدة بسبب تحتاج لرسالة وشريعة جديدة تتضمن إيجابيات الشريعة السابقة تحتاجه المرحلة الجديدة من مستجدات.
ولذا أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة وهي: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) وأنّ جميع الأنبياء يسيرون على صراط هذا الدين الواحد، ذي الهدف الواحد وإن اختلفت الشرائع، فهو دين واحد وضع بوضع الشريعة الأولى واكتمل في الشريعة الخاتمة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَمَ دِينًا ) ، نعم تختلف الشرائع وتتبدل تبعاً لما تفرضه سنة التطوّر وما تقتضيه الحكمة وحاجة المجتمع. فدين الله واحد، وهو الذي أرسل به رسوله الأعظم صلى الله عليه وآله أوصى به أنبياءه السالفين وفرض على الناس أن يقيموه وهو ذاته الذي ونهاهم أن يتفرّقوا فيه؛ قال تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تتفرقوا"
وقال تعالى: ﴿يَاتِهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَلِحَا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّنكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (۳). وقال تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا تُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (3) . وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )
فالبشر في مسيرهم التكامل كالقافلة التي تتحرّك في طريق معيّن نحو هدف معلوم، إلا أنها لا تعرف الطريق، فتصادف في كل فترة شخصاً يعرف الطريق، وبعد الاستدلال به تطوي مسافة أخرى حتى تصل تحتاج معه إلى دليل آخر، وبعد أن تأخذ توجيهات منه، تطوي مسافة أخرى.
مستعينة بما أخذته من توجيهات، وهكذا حتى تصل تدريجياً إلى شخص تأخذ منه الخارطة الكاملة وتستغني دوماً بتلك الخارطة عن دليل جديد. أو كالطبيب الذي يصف للمريض لكلّ شهراً علاجاً خاصاً يتناسب ودرجة تحمله للعلاج، فالعلاج وإن اختلف من مرحلة لأخرى إلا أن هدف الطبيب واحد وهو علاج المريض والوصول إلى كماله البدني مع حالته وسلامته.
وهكذا الحال بالنسبة للشرائع الإلهية فهي تسير نحو هدف واحد ومقصد واحد، وإن اختلفت وتفاوتت في تعليماتها وتفاصيلها، وإنّ كلّ شريعة لاحقة تكمل الشريعة السابقة لا أنّها متباينة أو متقاطعة معها. والحاصل أن صراط الأنبياء الذين هداهم الله إليه وإن كان يختلف بحسب ظاهر الشرائع سعةً وضيقاً إلا أن ذلك إنما هو بحسب الإجمال والتفصيل وقلة استعداد الأمم وكثرته والجميع متفق في حقيقة واحدة وهو التوحيد الفطري والعبودية التي تهدى إليه البنية الإنسانية بحسب نوع الخلقة التي أظهرها الله سبحانه على ذلك. ومن المعلوم أنّ الخلقة الإنسانية بما أنها خلقة إنسانية لا تتغيّر ولا تتبدّل تبدّلاً يقضى بتبدل أصول الشعور والإرادة الإنسانيين؛ فحواس الإنسان الظاهرة وإحساساته وعواطفه الباطنة ومبدأ القضاء والحكم الذي فيه وهو العقل الفطري لا تزال تجرى بحسب الأصول على وتيرة واحدة وإن اختلفت الآراء والمقاصد بحسب الاستكمال التدريجي الذي يتعلّق بالنوع والتنبه بجهات حوائج الحياة. وعلى هذا الأساس تكون الشريعة الخاتمة واجدة لكمالات الشرائع السابقة وزيادة، بمعنى أنها قادرة على الاستجابة لكل متطلبات الإنسان مهما بلغت من درجات التكامل المادي والمعنوي، بخلافه في الشرائع.