الطبيعة القانونية للعقود الإلكترونية
المبحث الثاني: الطبيعة القانونية للعقود الإلكترونية
أثارت مسألة تحديد الطبيعة القانونية للعقد الإلكتروني جدل واختلاف كبير لاسيما من جانب الفقه ولازالت هذه المسألة موضوع دراسة واجتهاد فيما بينهم بغية الوصول إلى تحديد التكييف القانوني الملائم لهذا العقد، وذلك على النحو التالي:
المطلب الأول: عقد مساومة أو عقد إذعان
يقصد بعقد الإذعان العقد الذي ينفرد فيه أحد أطرافه بوضع شروط لا يقبل مناقشتها ولا يكون للطرف الآخر سوى قبولها جملة واحدة أو رفضها، وبالتالي فإنَّ معيار الإذعان في العقد يتحقق متى انعدم الحق في مناقشة شروط العقد والقبول بما هو مقرر من شروط.
لا يمكن للقابل في عقد الإذعان مناقشة شروط العقد، وإنَّما هو بحاجة لتعاقد فيضطر للقبول حيث لا يكون له خيار غير القبول أو الرفض، فرضاؤه موجود إلاَّ أنَّه مفروض عليه وهو من الإكراه، إلاَّ أنَّه متصل بعوامل اقتصادية أكثر منه بعوامل نفسية.
وعليه، يعتبر هذا الجانب من الفقه إن العقد الإلكتروني نوع من أنواع عقد الإذعان والذي يقوم على خرق مبدأ سلطان الإرادة لأنه لا يقبل المناقشة ويقوم أساسا على فرض جملة من الشروط إما يأخذ بها جملة أو تترك جملة، ودعم هذا الجانب رأيه بأن المتعاقد في العقد الإلكتروني لا يملك إلا أن يوافق على الشروط المعروض عليه عبر الوسائل الاتصال المستعملة في إبرام العقد دون مناقشة أو مشاركة بالطرف الآخر.
إن إقرار هذا التصنيف في تحديد ميزة وخاصية للعقود الإلكترونية يعود لاعتبار أن المتعاقد - شخص طبيعي أو معنوي- لا يملك إلا أن يضغط في عدد من الخانات المقترحة أمامه في موقع المتعاقد الآخر على مواصفات معينة ومنها مواصفات المنتوج وثمنها المحدد سلفا ولا يملك أن يناقش أو يفاوض المتعاقد الآخر حول شروط التعاقد التي يوردها على الموقع، فهو لا يملك إلا قبوله أو رفضه كما هو.
استنادا لنص المادة 06 فقرة 02 التي عرفت العقد الإلكتروني مع الإحالة للقانون رقم 04-02 المتعلق بالقواعد المطبقة على الممارسات التجارية في نص المادة 03 منه الفقرة 04 على أنه: " كل اتفاق أو اتفاقية تهدف إلى بيع سلعة أو تأدية خدمة، حرر مسبقا من أحد أطراف الاتفاق مع إذعان الطرف الآمر بحيث لا يمكن إحداث تغيير حقيقي فيه..."
يتضح من هذه المادة موقف المشرع الجزائري الذي أقر صراحة أن طبيعة العقد الإلكتروني من عقود الإذعان، بحيث يحرر مسبقا من قبل أحد أطراف الاتفاق ولا يمكن للطرف الآخر إحداث أي تغيير في هذا العقد إما قبوله كليا لشروط هذا العقد أو رفضه كليا، وبالتالي قيد إرادة الطرف المذعن عليه وهذا خرق لمبدأ سلطان الإرادة.
وما يؤكد على أنَّ العقد الإلكتروني يغلب عليه طابع الإذعان هو: قانون التجارة الإلكترونية الذي سعى المشرع الجزائري من خلاله حماية المستهلك الإلكتروني باعتباره طرف ضعيف في العقد، فأوجبت المادة 13 منه ضرورة استيفاء العقد الإلكتروني مجموعة من المعلومات لتنوير إرادة المستهلك التي نصت عليها على سبيل المثال لا الحصر، ويستشف من خلال هذه المادة أنَّ شروط العقد الإلكتروني توضع بشكل مسبق من طرف المورد الإلكتروني وهذا حماية للطرف الضعيف (الطرف المذعن) في هذه العقود أوجب المشرع الجزائري إعلام المتعاقد بالخصائص الأساسية للسلعة أو الخدمة وبشروط التعاقـــد، وهو ما يدعم القول أنَّ العقد الإلكتروني يغلب عليه طابع الإذعان.
والجدير بالذكر أنَّ هناك مفهوم تقليدي وآخر حديث لعقد الإذعان، فحسب المفهوم التقليدي تتحقق عقود الإذعان باجتماع عناصر ثلاثة أولها تعلق العقد بسلع أو خدمة تعبر من الضروريات الأولية للمستهلكين، والثاني احتكار هذه السلع أو المرافق احتكارا قانونيا أو فعليا، والثالث صدور الإيجاب للجمهور بشروط مماثلة ولمدة غير محددة.
أمَّا المفهوم الحديث يرى عدم التشدد في تحديد فكرة عقود الإذعان حيث يكفي أن يكون العقد قد تم إعداده مسبقا من طرف الموجب فلا تقبل أي مناقشة للشروط الواردة به.
تجدر الإشارة إلى أنَّ تحديد طبيعة العقود الإلكترونية عما إذا كان عقد رضائي أم إذعان، بمقتضى اعتماد ضابط ويتمثل في الوسيلة المستخدمة في إبرام التعاقد الإلكتروني فإذا تم التعاقد بواسطة برامج المحادثة، أو استخدام الوسائل سمعية المرئية يكون العقد والمفاضلة بين العروض المطروحة عليه حتى يحصل على أفضل الشروط التي تناسبه.
أمَّا التعاقد بالبريد الإلكتروني يكون بإرسال التجار رسائل عبر البريد الإلكتروني للمستهلك يدعوه للتعاقد ويسمح بالمناقشة والمفاوضة على بنود العقد فتنعدم صفة الإذعان لكن قد يرسل التجار رسائل البريد الإلكتروني للمستهلك يدعوه للتعاقد مرفقة بنموذج للعقد فيقتصر دور المستهلك إذا رغب في التعاقد على ملأ هذا النموذج وإرساله للتاجر دون تعديل لبنود العقد.
بالنسبة لمواقع الويب فهي تعتمد في غالب الأحيان في عملية التعاقد على عقود نموذجية تكون شروطها معدة بشكل مسبق، بحيث لا يترك للموجب له (المستهلك) أي مجال لمناقشة شروط وبالتالي يكون المتعاقدين غير متكافئين في القدرة التعاقدية، فيكون العقد الإلكتروني عقد إذعان.
المطلب الثاني: عقد رضائي أو عقد شكلي
اعتبر جانب من الفقه العقد الإلكتروني عقد رضائي، لأنَّ المتعاقد له مطلق الحرية في التعاقد مع أي منتج أو مورد آخر إذا لم تعجبه الشروط المعروضة في السوق الإلكتروني، ويستطيع الانتقال من موقع إلى آخر واختيار ما يشاء ويترك ما يشاء، بمعنى أنَّ التراضي يقوم على أساس المساواة القانونية بين أطراف التعاقد فتتطابق الإرادتين حول مضمون العقد، بحيث يستطيع كل منهم مناقشة شروطه.
المطلب الثالث: عقد تجاري أو عقد استهلاكي أو عقد مختلط
يتصف العقد الإلكتروني في الغالب بالطابع التجاري الاستهلاكي، كما يطلق عليه عقد التجارة الالكترونية، وقد جاءت تلك الصفة من السمة الغالبة لذلك العقد، لأنَّ عقود البيع الإلكترونية هي المستحوذة على العقود الإلكترونية إلاَّ أنَّه غالبا ما يكون مقدم السلعة أو الخدمة تاجرا، أمَّا المستهلك فغالبا ما يكون شخص مدني، ولهذا يعتبر عقد ذو طبيعة مختلطة تجاري بالنسبة للبائع المورد الإلكتروني ومدني استهلاكي بالنسبة للمشتري المستهلك الإلكتروني.
ولقد اختلفت مواقف التشريعات بين مؤيد لوجوب التفرقة بين العقود المدنية والتجارية وبين من يرفض الصفة التجارية أو المدنية للعقد الإلكتروني، فتجد على سبيل المثال المادة الأولى من اتفاقية الأمم المتحدة بشأن عقود البيع الدولي للبضائع لعام 201، تنص على أنَّه: «لا تؤخذ في الاعتبار جنسية الأطراف ولا الصفة المدنية أو التجارية للأطراف أو للعقد في تحديد تطبيق هذه الاتفاقية".
وبالرجوع إلى قانون الأونسيترال بشأن التجارة الإلكترونية نجد أنَّه حدد نطاق تطبيقه على الأنشطة التجارية، إلاَّ أنَّه يشمل أيضا جميع المعاملات الإلكترونية الممهورة بالتوقيع الإلكتروني، وهو ما يعني إمكانية توسيع نطاق القانون النموذجي ليشمل استخدام التوقيعات الالكترونية حتى خارج المجال التجاري.
المطلب الرابع: عقد داخلي أو عقد دولي
يتصف التعاقد الإلكتروني الذي يتم عبر وسائل الإتصال الالكترونية بالطابع الداخلي والدولي، واتسام العقد الإلكتروني بالطابع الداخلي عندما يكون العقد بين طرفين في داخل البلد الواحد، أما دولية العقد فتكون في حالة الخروج من حدود الدولة، فالمعاملات الإلكترونية عبر شبكة الإنترنيت يمكن أن تتم بين أشخاص يتواجدون في دول مختلفة، فالمستخدم من دولة والمورد من دولة أخرى، شركة تكنولوجيا معالجة البيانات وإدخالها وتحميلها عبر شبكة موجودة في دولة أخرى.
المطلب الخامس: العقد الإلكتروني عقد ذو طبيعة خاصة
يذهب رأي فقهي إلى أنه يجب التمييز بين نوعين من العقود الإلكترونية عند تحديد الطبيعة القانونية، إذ أن العقود الإلكترونية من حيث آلية إبرامها هي إما عقود يتم إبرامها عن طريق البريد الإلكتروني قد تحتوي على سمات عقود الإذعان، أما بالنسبة إلى العقود التي تبرم عن طريق البريد الإلكتروني فغالبا ما تكون عقود رضائية إذ يتم التفاوض على إبرام العقد عن طريق إرسال الرسائل الإلكترونية بين المتعاقدين عن طريق المواقع الشخصية الإلكترونية إلى أن يقترن إيجاب أحد المتعاقدين بقبول الآخر فينعقد العقد.