الكيمياء الحديثة مع لافوازييه
فلسفة الكيمياء
1-خرافة الفلوجستون وظاهرة الإحتراق:
بعد أن فسر أرسطو التفاعلات التي تحدث في المادة من خلال العناصر الأربعة (الماء- الهواء-التراب-النار) فإن التفسير الكيميائي الجديد اقتصر على النار كعنصر فعال في التفاعل الكيميائي، بمعني أن سبب الاحتراق الذي يحدث في المادة سببه مادة غامضة تسمي "الفلوجستون" وكان الكيميائي الألماني "جوهان بواكير بيتشر" قد صاغ نظرية مؤداها أن تراباً زيتياً تحتويه المادة هو المسؤول عن قابلية المركبات الكيميائية للاحتراق.
حظيت هذه النظرية بإعجاب الكيميائي الألماني "جورج إرنست ستال" فطورها على أسس تجريبية وأطلق على هذا العنصر الذي افترضه "بيتشر" باسم "الفلوجستون" وهي كلمة إغريقية معناها الاشتعال أو الالتهاب.
وافترض ستال أن هذا العنصر كاف لتفسير معظم الظواهر الكيميائية ( الأكسدة- التنفس- الاشتعال- التحلل)، فأي مادة تشتعل تحمل "الفلوجستون" فالاشتعال يؤدي إلى فقدان هذا العنصر وينطلق في الهواء، لكن ستال لم يتمكن من الحصول على الفلوجستون ذاته، ورغم ذلك اعتبر أن نظرية الفلوجستون تعتبر نقطة تحول كبيرة في تاريخ الكيمياء.
"بقيت هذه النظرية تحظي بقبول عام حتى منتصف القرن الثامن عشر لكن قوتها التفسيرية سرعان ما تراجعت تحت ضغط المشاهدات و التجارب التي جرت لاختبار صحتها، بحيث عند اشتعال أو تمحيص بعض الفزات المعينة و مواد في الهواء، فإن الكتلة المسحوقة أو الكلسية الناتجة تزيد في وزنها الكلي على وزن الفلز الأصلي نفسه.وهذه الحقيقة تخالف نظرية الفلوجستون، إذ لو كان الفلز قد فقد بالتسخين شيئاً اسمه الفلوجستون لوجب أن يزن المتبقي أقل من الفلز الأصلي، حينها حاول أنصار نظرية الفلوجستون تفسير ذلك بحيث أكدوا أن الفلزات تكون ذات وزن سالب وكلما استبعدت زاد وزنها بدون تقديم مبررات علمية وهذا ما أدي إلى استبعادها".
2-إكتشاف جوزيف بريستلي:
قام الكيميائي الإنجليزي "جوزيف برستلي" بإجراء تجارب على الغازات معتمدا في ذلك على الفلوجستون حيث تمكن من فصل ثاني وأكسيد الكربون CO2 بجمعه فوق الزئبق في قارورة زجاجية، لأن CO2 لا يذوب في الزئبق بل يذوب في الماء.هذه العملية مكنت برستلي من إنتاج هواء النيتروجين أو ما يعرف باسم وأكسيد النيتريكO2N . وأن هذا الهواء إذا ما مكث فوق برادة الحديد ينتج غاز أخر سببه توهج النار المشتعلة بدرجة أشد من الاشتعال في الهواء العادي وكان يدرك بأن سبب هذا الاشتعال لا يعود لمادة الفلوجستون، لأن هذا الغاز لا تتواجد به هذه المادة، وأطلق عليه "برستلي" الهواء الخالي من الفلوجستون. هذا البحث الذي قام به برستلي كان المنطلق الأساسي في الاكتشاف الذي توصل إليه لافوازييه فيما بعد[1].
3-الكيمياء عند انطوان لافوازييه:
يبدو أن علم الكيمياء ظهر كعلم قائم بذاته مع لافوازييه، ذلك أن الممارسات في ميدان الكيمياء كانت ممزوجة بالأساطير و السحر و الخرافة، وحتى الأبحاث التي قام بها أرسطو في الفترة اليونانية أو التي تلتها عند العرب المسلمين خاصة مع جابر بن الحيان، وصولاٌ إلى جوزييف برستلي مثلت البدايات للتأسيس لعلم الكيمياء، إلا أن الانطلاقة الفعلية والحقيقية لهذا العلم بدأت مع لافوازييه.
رغم أهمية نظرية الفلوجستون إلا أن لافوازييه تجاوزها، من خلال التجارب التي أجراها على عملية التنفس و الاحتراق، و الأكسدة، وهذا ما مكنه من اكتشاف الأوكسجين بحيث استعانة بالأجهزة القياسية.
التجربة:" فقام بتسخين الزئبق في حجم من الهواء مقداره خمسين بوصة مكعبة( والمقصود به قياس حجم المكعب بأبعاده الثلاثة الطول–العرض- العمق)فلاحظ أن تكون الكلس( حجر جيري) كان مصحوبا باختفاء ثمان أو تسع بوصات(أصغر وحدة لقياس الطول "pouce" ) مكعبة من الهواء، أما الباقي فلم يمكن من عملية اشتعال الشمعة، وسرعان ما يفقد فأر الشمعة ضوئه إذا ما وضع فيه، وعند عملية التسخين الكلس في انبوب منفصل حصل على مقدار من الهواء مساوٍ للمقدار الذي فُقِدَ أصلاً أثناء تكوّن الكلس، وراح يوضح أن هذا الجزء الحيوي من الهواء كان يصطحب جميع عمليات الاحتراق، إذ يتحد مع المعدن ليكون كلساً ومع مواد أخرى ليكون أحماضاً ومع بعض لمواد الخفيفة ليكون ذخاناً، وأن هذا الجزء من الهواء هو الذي يجعل عملية التنفس و عمليات الاحتراق و الحياة ممكنة، فأعلن لافوازييه عام 1777عن اكتشاف الأوكسجين كعنصر في الهواء يحدث فعالية من خلال تفاعلاته مع عناصر أخرى.إذ يقول لافوازييه"سوف أسمي في المستقبل الهواء الحالي من الفلوجستون أو هواء التنفس النقي بإسم عنصر التحميض، وإذا كان من الأفضل إطلاق إسم يوناني فليكن ذلك عنصر الأوكسجين"[2]
بناءا على ذلك وضع لافوازييه أسس الكيمياء الحديثة القائلة بأن العناصر لا تتحلل بل تتحد بعناصر أخرى لتكون المركبات، مما أدي إلى دحض النظريات القديمة والتي اقترحت وجود مادة للاشتعال تسمى الفلوجستون كما سبق ذكر ذلك، كما تم دحض نظرية العناصر الأربعة لأرسطو. وبناءا عليه أصبح الأوكسجين، عنصر هام في التفاعلات التي تحدث في المادة، فهو ضروري لقيام الاحتراق. فالظاهرة الاحتراق وغيرها من التفاعلات الكيميائية أصبحت في متناول الفهم بواسطة عنصر الأوكسجين، وبواسطة التحليل و التركيب لعنصر المادة تمكن من معرفة مكونات الماء إذ يتركب من الأوكسجين والهيدروجين، فعندما قام بإحراق هذا الأخير أدي إلى إحداث تفاعل تنج عنه الماء، وعليه تبين أن الماء ليس عنصر بسيط بل مركب من الهيدروجين و الأوكسجين.
كما بين لافوازييه أن المادة لا تفقد وزنها ولا تكتسب وزناً إضافياً أثناء التفاعل، وهذا ما يسمي بقانون حفظ الكتلة. والذي ينص"أي نظام مغلق لا يحدث فيه أي انتقال للمادة والطاقة، فإنّ كتلة النظام تبقى ثابتة بمرور الزمن، ولا يمكن لكتلة النظام أن تتغير دون إضافة أو إزالة المادة إليه، وبصياغة أخرى أكثر شهرة “المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم، ولكنها تتحول من شكل إلى آخر”.
استنتاج : من خلال تتبع مراحل تطور علم الكيمياء يتبين أن الاكتشافات التي عرفها هذا العلم مع لافوازييه خاصة فيما يتعلق باكتشاف الأوكسجين لم يكن نتيجة قطيعة تامة مع المعرفة السابقة بل استند في ذلك إلى أبحاث برستلي، وهذا ما يؤكد النظرة التواصلية في الأبحاث العلمية، لكن هذا لا ينفي وجود اختلاف في الطرح و في طريقة التفكير. بحيث تمكن لا فوازييه من معرفة لغز ظاهرة الاحتراق من خلال التأكيد على عنصر الأوكسجين ورفضه لفكرة الفلوجستون، وهذا ما لم يتمن منه برستلي.
[1] - صالح عثمان، "الصلة بين الفلسفة والكيمياء" مرجع سابق، ص 20
[2] - صالح عثمان، "الصلة بين الفلسفة والكيمياء" مرجع سابق، ص 21.