مقدمة:  إن النتائج الايجابية التي تحققت في ميدان الفيزياء و الكيمياء و البيولوجيا جراء البحث العلمي العميق في نهاية القرن الثامن عشر، فإن بداية البحث العلمي في ميدان العلوم الإنسانية ظهرت مع نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين خاصة لما بدأت المجتمعات الحديثة تتعرف أكثر على قضايا وإشكاليات جديدة تتعلق بالمجال النفسي و الاجتماعي المرتبط بالتطورات السريعة التي شهدتها هذه المجتمعات، فأصبحت العلوم الإنسانية تسعى إلى تحويل الإنسان كموضوع دراسة علمية موضوعية شبيهة بتلك التي حدثت في مجال العلوم الطبيعية. فما هو موضوع الإنسانية وهل يمكن قيامها كعلوم تتميز بالموضوعية و الدقة كما هو الشأن في دراسة العلوم الطبيعية؟                  

     1-موضوع العلوم الإنسانية:  

      لقد أصبح التفكير في الإنسان مند أن أطلق سقراط عبارته المشهورة "أعرف نفسك بنفسك" ومع عناية الفلاسفة بالإنسان وازدياد شعور العلم بالإستقلاله وبإمكانياته في اقتحام جميع ميادين المعرفة و السلوك، فنمت فكرة وضع علوم إنسانية تكون موازية لعلوم الطبيعة، خاصة وأن الإنسان تمكن من معرفة الطبيعة و ما يحيط به من ظواهر فكان لازماً عليه أن يتعرف أكثر عن عالمه الخاص الذاتي.

فظهرت هذه العلوم لتتناول الإنسان من جوانب مختلفة وتسلط الضوء على أوجه النشاطات المختلفة و المتعددة، فالإنسان باعتباره كائن يحتوي في طياته على جوهر نفسي يؤثر على السلوك فظهر ما يسمي بعلم النفس يختص بدراسة السلوك الإنساني بوصفه معبراً عن عدة عوامل داخلية فيه مكتسبة كانت أم وراثية، كما أنه عضو في المجتمع له حقوق و عليه واجبات يتأثر بمختلف الظواهر الاجتماعية فظهر ما يسمي بعلم الاجتماع الذي يختص بدراسة الظواهر الاجتماعية بصفة عامة ومدى تغيرها، باعتبارها تجسيدا للسلوك الإنساني.أما علم التاريخ يدرس السلوك البشري عبر مراحل، أو فترات زمنية متباينة في مساره العام. بينما علم القانون يدرس كيفية ضبط السلوك الإنساني وفقاً لقواعد أو قوانين يتم تشريعها لضمان الحقوق وتنفيذ الواجبات، أما علم السياسة يدرس سلوك الفرد السياسي و تحديد طبيعة العلاقة بين المواطن و السلطة. بالنسبة لعلم الأنتروبولوجيا يدرس الإنسان و تطور سلوكه من حيث العادات و التقاليد سواء في المجتمعات البدائية الأولية أو المجتمعات المتحضرة من كافة جوانبها. في حين نجد علم الأخلاق يختص بدراسة كيفية تقويم سلوك الفرد في علاقته بالنسبة للآخرين من خلال مبدأ الخير و الشر، وعليه "فإن العلوم الإنسانية تدرس جميع أوجه النشاط الإنساني، فتدرس كل ما يتعلق بالإنسان من ظواهر نفسية و اجتماعية و تاريخية و سياسية و اقتصادية ولغوية واتصالية ودينية وغير ذلك".[1]

     لكن نتيجة لطبيعة الأحوال الإنسانية تشكلت عوائق حالت دون تحقيق العلمية على الظاهرة الإنسانية ومن هنا نتساءل هل تمكن البحث في ميدان العلوم الإنسانية من تجاوز هذه العقبات و تحقيق العلمية؟

المنهج في علم النفس:

لقد حاول الباحثين في ميدان علم النفس من تجاوز أهم العوائق التي حالت دون تحقيق الموضوعية في ميدان البحث السيكولوجي، خاصة المناهج الاستبطانية الذاتية، ويرجع الفضل في ذلك إلى مجموعة من العلماء أمثال "بيرون" و"واطسن" و"سغموند فرويد"، حيث "يهدف المنهج العلمي الموضوعي في علم النفس دراسة الظواهر النفسية و السلوكية دون أن يسقط الباحث عليها حالاته الذاتية، فلا يتأثر بميوله واتجاهاته وأرائه وتعصباته أو تحيزا ته بل يسجل الوقائع كما هي في الواقع بعيدا عن ذاته"[1]

ب 1-العالم الفرنسي "هنري بيرون": عارض هذا العالم كل المناهج التي اتخذت من الاستبطان أسلوب في الدراسات النفسية، وكان له توجهاً أخر في ميدان علم النفس يتخذ من السلوك الخارجي للفرد مادة خام في دراسة الحالات النفسية، ففي نظره أن المادة النفسية تتمثل في السلوك، و تتبع الدراسة في هذا المجال سوف تحرر الباحثين في هذا الميدان من النزعة الذاتية، والتقرب أكثر من الدراسة العلمية الموضوعية، ذلك أنه بإمكان ملاحظة السلوك الخارجي كما تلاحظ الظواهر الطبيعية، و السلوك الخارجي هو انعكاس لما يجري داخل النفس من أحوال وخبرات.

ب 2-المنهج السلوكي "واطسن": لقد رفضت المدرسة السلوكية بدورها المنهج الاستبطاني واعتبرته عائق أمام تطور علم النفس لأنه يعتمد على الشعور كظاهرة ميتافيزيقية، وتم تعويضه بالسلوك الذي يقبل الملاحظة الخارجية وتجسيد حي لما يقوم به الكائن من ردود أفعال منظمة، فكل فعل هو في الحقيقة استجابة لمنبهات خارجية، فالظواهر النفسية لها بعد خارجي تتمثل في السلوك مما يمكن إقامة التجريب والتحليل الموضوعي، والدليل على نجاعة هذا المنهج وتجربة "بافلوف" على الكلب حيث كان يقدم الطعام للكلب مقترناً مع دق الجرب فبعد تكرار هذه العملية تحولت الاستجابة الطبيعية إلى استجابة شرطية بحيث بدأ الكلب يستجيب للجرس بسيلان اللعاب دون تقديم الطعام.

ب 3-منهج التحليل النفسي: يري سغموند فرويد أن الظاهرة النفسية متشبعة إذ تحتوي على منطقة عميقة تسمي باللاشعور تتكون من مجموع الرغبات المكبوتة غير المحققة و التي تؤثر على سلوك وتجعله مضطرباً مما تستدعي علاجاً تحليلياً لزوال تلك الأعراض، من هنا يتضح إن التحليل النفسي في مجال السيكولوجية المعاصرة فتح الباب أمام ظهور اختصاصات إكلينيكية في الدراسات السيكولوجية المرتبطة بالمجتمع، "إن التحليل النفسي وأثناء توضيح العمليات النفسية الداخلية ينطلق من أهواء الإنسان الجنسية اللاواعية فهو يكشف عن الصلات الاجتماعية و العلاقات الاجتماعية المتبادلة بين البشر"[2]  

     ج-المنهج العلمي في علم الاجتماع: لقد حاول علماء الاجتماع من دراسة الظاهرة الاجتماعية دراسة موضوعية ومن منطلق ربط العلاقات التي تؤدي إلى ظهور ظاهرة اجتماعية ما وتقبل تفسيراً موضوعياً من خلال فهم هذه العلاقة التي تحدث داخل المجتمع بين الظواهر ولذلك أشارة "دوركايم" إلى ما يسميه بشيئية الظاهرة الاجتماعية بحيث شبهها بالظاهرة الطبيعية و الفيزيائية التي تحدث في الطبيعة وعليه يمكن معالجتها معالجة علمية، فهي خارجة عن شعور الأفراد تخضع لتحكم العادات و التقاليد والمعتقدات الموجود قبل وجودة الفرد توجه سلوكياته، فالقوانين الاجتماعية تفرض سيطرتها على الفرد الذي يجد نفسه مجبراً على السير وفقها، هذه النظرة العلمية عند دوركايم سببها تأثره بالوضعية المنطقية بحيث تبلورت لديه النزعة التجريبية في علم الاجتماع وظهر ذلك جلياً في كتابه"قواعد المنهج في علم الاجتماع" وغرضه في ذلك الوصول بالدراسات الاجتماعية إلى نوع من الموضوعية"[3]

   خاتمة: بفضل هذه المناهج أثبتت العلوم الإنسانية وجودها ومكانتها على خريطة الفكر الإنساني، وأصبحت تقترب أكثر من الدراسة الموضوعية على غرار العلوم الأخرى، وفعلاً في مجال التاريخ مكننا المنهج التاريخي من معرفة الماضي أكثر مما عرفه أسلافنا أما في علم النفس تطورت الأبحاث خاصة في المجال الطبي الإكلينيكي وأصبحنا نعرف أكثر عن العلاقة بين الجسد و النفس، فكثير من الأمراض العضوية سببها نفسي. كما أصبحت تستخدم الدراسات الاجتماعية في مجال التحليل الجغرافي السياسي وعلى الرغم من "أن العلوم الإنسانية استوفت على الكثير من شروط وسمات التفكير العلمي، لكن ليس بالدرجة المحققة في العلوم الطبيعية، كما لا يمكننا طمس المنهج الكيفي في العلوم الإنسانية خاصة علم الاجتماع وعلم النفس طمساً تاماً لأن ذلك سيؤدي إلى تحويل هذه الدراسات التي قامت على الوصف الكيفي إلى مجرد إحصائيات وأرقام لا معني لها"[4].

 [1] - أحمد نور أبو النور وآخرون، قضايا العلوم الإنسانية، إشكالية المنهج، إشراف و تقديم، يوسف زيدان، القاهرة(ب ط)(ب س)،ص 146.

[2] - فاليري ليبين، فرويد التحليل النفسي و الفلسفة الغربية المعاصرة، تر ريان الملاّ، الدار الطليعة الجديدة مكتبة الأسد دمشق،ط1، 1997م، ص122.

[3] - محمد علي أبويان، أسلمة المعرفة،ة العلوم الإنسانية ومناهجها من وجهة نظر إسلامية، دار المعارف الجامعية، مصر، 1997م، ب ط، ص234.

[4] - إبراهيم مصطفي إبراهيم، في فلسفة العلوم، مرجع سابق،ص 179.

 [1] -  إبراهيم مصطفي إبراهيم، في فلسفة العلوم، مرجع سابق،ص 179.


Last modified: Tuesday, 11 October 2022, 12:41 PM