الفيزياء المعاصرة/نظرية الكوانتم
نظرية الكوانتم:
نظرية تبحث في المادة غير أن معرفة المكونات الداخلية للذرة لم يكن نهاية المطاف بالنسبة للفيزياء دون الذرية وإنما فتح الباب لتساؤلات عديدة عن القوانين المفسرة لحركة هذه الجسيمات. فالإلكترون – على سبيل المثال- يدور حول النواة بسرعة هائلة وبحسب قوانين الحركة عند نيوتن، يفترض أن يفقد الإلكترون ماله من طاقة وينتهي به الأمر إلى السقوط داخل النواة. وبتقويض النظام البنيوي للذرة، وقد قدر العلماء الزمن اللازم لحدوث ذلك بجزء من مئة مليون جزء من الثانية ومع ذلك فالنتائج العلمية جنبا إلى جنب مع المعرفة التجريبية تكذبان هذه النتيجة، ومن اجل ذلك نشأت ميكانيكا جديدة هي ميكانيكا الكوانتم." والمقصود بالميكانيكا هو علم الحركة أما كوانتم فهي مفرد كوانتا اللاتينية وتعني الكم والكلمتان معا تعنيان النظرية التي تدرس حركة الجسيمات دون الذرية."[1] وبينما البحث في طبيعة المادة يتقدم، كان هناك بحث آخر يكمل البحث في المادة، فمنذ القرن السابع عشر اتخذ البحث في طبيعة الضوء طابع المنافسة بين نظريتين مختلفتين، هما النظرية الجسيمية والنظرية الموجية للضوء، وأكثر ما يلفت النظر في هاتين النظريتين إن الشواهد التجريبية تؤيدهما معا بالرغم أنهما تقومان على أسس فيزيائية مختلفة. الواقع أن الإلكترون من بين الجسيمات دون الذرية كان بالنسبة للعلماء كالصداع المزمن الذي لا علاج له ففيه تتجسد الصفات المتنافرة للموجات والجسيمات معا وبدا للعلماء أن الطبيعة تتلاعب بهم وتحول دون وصولهم للحقيقة ، فهي تعطي للوصف الموجي قدر ما تعطي للوصف الجسيمي وبينما العلم في هذا المأزق خرج "لوي دي برولي" بفكرة غريبة بالمقاييس العلمية آنذاك وتساءل : لم تختلقون تعارضا بين الموجة والجسيم،... أفلا يجوز أن يكون للإلكترون الطبيعتين معا." وقد نتج عن ذلك أن انقسم العلماء إلى مدرستين هما مدرسة برلين التي يناصرها ماكس بلانك(1858-1947، M. Planck) وبور(1885-1962، N. Bohr)، وهي التي تتمسك بالطبيعة الجسيمية للضوء وتسمى نظريتها بالكوانتم الجسيمية ثم مدرسة كوبنهاجن صاحبة الكوانتم الموجية والتي يقف على رأسها فيرنر هيزنبرغ وشرودينجر."[2] وفي غياب التجربة الفعلية تجوز كل التفسيرات فكلا الفريقين قد بني اعتقاده على استدلالات مستخرجة من استدلالات. أما حقيقة الضوء نفسه آو الإلكترون فلا احد يعرف عنها شيئا طالما إن رؤيته مستحيلة، ويعتبر ذلك من أهم النتائج الفلسفية لنظرية الكوانتم. أي غياب اليقين أو القول بحقيقة مطلقة والاعتماد على الاستدلالات ونظرية الاحتمال بطريقة مكثفة أكثر من ذي قبل. فالقائلون بوجود الإلكترون يستدلون على ذلك من آثاره. والقائلون بعدم وجود الإلكترون واقعيا وانه مجرد تصور رياضي يستدلون على ذلك من نفس هذه الآثار. الأمر الذي يشير إلى أن المشكلة خرجت من يد العلماء إلى ما بعد العلم أو الفلسفة أي أن نحدد أولا ما ذا نعني بالوجود؟
ربما تكفي تحليلات هيوم للسببية دونما حاجة للنتائج العلمية لتتضاءل حدود المعرفة الإنسانية، لكن بعد حلول الاحتمالية محل الحتمية في علاقة الاستدلال على ما لا يمكن مشاهدته، يصبح من العبث تأييد هذا الرأي أو ذاك. وليس هذا بقول الفلاسفة وحدهم وإنما هو عقيدة العلماء أنفسهم، بدليل أنهم انصرفوا عن البحث في حقيقة أو وجود الإلكترون إلى البحث في وظيفة المفهوم العلمي المسمى بالإلكترون. وبدا وكأن العلم قد تخلص من المشكلة بتصديرها إلى الفلسفة إذ تحول الخلاف العلمي إلى مشكلة فلسفية انقسم الفلاسفة بسببها إلى معسكرين،* وهكذا بات من الضروري إعادة النظر في كل المصطلحات الفلسفية التي نتعامل معها حتى اليوم، لأنها نبتت على أرضية نيوتونية ولم تعد قادرة على التعبير عن معطيات فيزياء القرن العشرين. هكذا جاءت ميكانيكا الكوانتم كنظرية بديلة لميكانيكا نيوتن في تفسير حركة الجسيمات المتناهية في الصغر، ويؤرّخ لها عادة بعام 1900، وهو العام الذي قدم فيه بلانك فرضه عن الكم كتفسير لانتقال الطاقة على هيئة دفعات أو جرعات صغيرة ومحددة وبصرف النظر عن النتائج بالغة الأهمية لهذه النظرية من الناحية الفيزيائية، فقد أدت إلى بروز ظاهرة جديدة ملفتة للنظر ما كنا نتوقع مطلقا أن توجد في العلم، بل كان الظن إنها وقف على الدراسات الإنسانية. ونقصد بها ظاهرة المدارس العلمية أو قل المذاهب العلمية. هذه المدارس ما كان لها أن تظهر في مجال العلوم الدقيقة لولا اختلاف دلالة التجربة ، ومعنى التحقق في فيزياء القرن العشرين. وقصورها عن حسم الفروض المتقابلة. ومن ثم تهيأت للعقل فرصة كبيرة لان ينفذ بتأملاته في حقيقة الواقع، فزعم البعض منهم أن هذه النظرية تقويض للمذاهب المادية والإلحادية عندما كشفت عن العنصر الروحي الموجود في صميم الكون وكانوا يقصدون بذلك أن الكون قوامه موجات ضوئية وليست مادية. واعتبروا ذلك دليلا ليس على وجود الله (عزّ وجلّ) اللاّمادي فحسب بل وآية أيضا على وحدانيته. فالقوانين التي تفسر حركة الإلكترون حول نواة الذرة هي عينها القوانين التي تفسر حركة الكواكب حول الشمس. ومن وحدة المصنوع، نستدل على وحدة الصانع. وذهب البعض الآخر إلى أن مبدأ اللاتعين أو عدم التحديد الذي توصل إليه هيزنبرغ (1901-1976،W.K. Heisenberg) يؤكد حرية الإرادة الإنسانية. ونحن لو نظرنا إلى القوانين العلمية التي تركها لنا نيوتن مثل قوانين الحركة، والتي بنيت بمفاهيم تجريبية، سنجدها لا تعترف إلا بالموجودات المادية القابلة للإدراك الحسي مباشرة"[3]، ولما "جاءت نظرية الكوانتم أكدت أن المادة المحسوسة وهم فارغ وان الحقيقة ليست إلا جسيمات غير مرئية على الإطلاق، ونحن نستدل على وجودها من الآثار الناتجة عنها كالكهرباء مثلا فما من إنسان رأى مم تتكون. ولكنّنا جميعا على يقين من وجودها في كل شيء حولنا. أي أن نظرية الكوانتم تحولت من منطق التجربة القائمة على المشاهدة، إلى منطق للإقناع العقلي إذن، إذا كان الإلكترون غير قابل للمشاهدة مباشرة ولكننا نستدل على وجوده من أثاره العملية فلم لا يكون الله والنفس والوعي والقيم موجودة بنفس المعنى وبنفس الطريقة. فيقول هيزنبرغ أن قضايا الروح والوعي والقيم يمكن ربطها على نحو جديد بالتصور العلمي السائد في عصرنا هذا.[4] وفي إطار هذا المناخ الفكري الذي هيأته نظرية الكوانتم والذي يسمح بالقول بوجود ما هو غير تجريبي، سعى الفلاسفة من ذوي الاهتمامات الروحية لتوظيف أقوال العلماء لتدعيم معتقداتهم الإيمانية، فكما نقول أن هناك جسيمات أولية كذلك هناك أرواح أولية، هذه الأرواح تتخذ من أجسامنا سكنا لها كما يتخذ الإلكترون من الذرة مكانا له، غير أن البعض من فلاسفة العلم من المناطقة أمثال بول لانجافان تصدى لهذا التيار المضلل من التأويلات الميتافيزيقية الخاطئة فتشبيه الإلكترون بالروح لمجرد انه غير قابل للمشاهدة مسالة بالغة الخطورة لأنها تتنافى مع الروح العلمية. وتؤدي إلى ما يسميه بالردة العلمية والعودة إلى الغيبيات وصور الخرافة."[5] كما كان من بين أهم النتائج الهامة التي أسفرت عنها ميكانيكا الكوانتم قول هيزنبرغ بمبدأ اللاتحدد وكان يقصد به أن قفزات الإلكترون عبر المدرات داخل الذرة لا تخضع لأي قانون ضروري وقد أثار هذا المبدأ اهتمام كثير من الفلاسفة. ممن يهمهم تأكيد حرية الإرادة الإنسانية فمقولة الحرية هي الأساس الميتافيزيقي الذي تستند إليه ماهية الإنسان ككائن عاقل، ونحن لوقارنا بين ميكانيكا نيوتن وميكانيكا الكوانتم سنجد أن الأولى ضربت على الكون ستارا حديديا من الحتمية الصارمة التي تعبر عن سيطرة الضرورة العقلية على الطبيعة والإنسان على السواء، وعلى العكس من ذلك جاء مبدأ اللاتحديد عند هيزنبرغ ليفك الحصار الذي ضربته حتمية نيوتن على الكون بما في ذلك الإنسان والأساس المنطقي الذي يعتمد عليه هذا اللاتحديد هو نظرية الاحتمالات بمعنى ان حتمية نيوتن قامت على فكرة المسار الثابت والتي تحتم الجمع بين الموضع والسرعة بالنسبة للشيء المتحرك. ولكن بناء على معادلة هيزنبرغ عن هامش الخطأ فمن المستحيل الجمع بين الدقة الكاملة في قياس الموضع والسرعة بالنسبة لحركة الإلكترون.[6] وهكذا حاول البعض استثمار مبدأ اللاتحديد بطريقة ميتافيزيقية ليؤكد بها حرية الإرادة الإنسانية بالرغم من أن منهم علماء يعرفون حدود العلم. وبالرغم من أن هيزنبرغ لم يتطرق ببحوثه إلى الإنسان، فقد ذهب ادينجتون إلى تفسير عجز العلماء عن التنبؤ بأي الالكترونات الذي سيقفز من مداره والى أي المدارات سيتجه، نقول تأولوا ذلك بان الإلكترون "حر" في أن يقفز متى وأنى شاء. أفيكون الإنسان وإرادته اقل حرية من الإلكترون؟!، يمكننا القول –دون مبالغة- إن الطريقة التي توصل بها العلماء النظرية الكوانتم أحدثت ثورة منهجية ابستيمولوجية شاملة وأدت إلى تغيير جذري في هيكل البناء المنطقي للمنهج العلمي وكذلك معنى ووظيفة بل وشكل التجربة في المنهج العلمي المعاصر أما من الناحية المنهجية فقد كان من المستقر حتى أيام نيوتن أو قبله بقليل – وكما يتضح ذلك من خلال علماء المناهج أمثال بيكون وكلود بيرنار وويول- أن المنهج العلمي يتكون من خطوتين تجريبيتين تتوسطهما خطوة عقلية تفسيرية.* هذا المنهج تغير تماما من حيث هيكله المنطقي، وكذلك من حيث وظيفة كل خطوة فيه. وحل محله ما نعرفه اليوم بالمنهج الفرضي أو المنهج العلمي المعاصر.[7] فالعلماء اليوم لا يبدؤون بحوثهم بالملاحظة لان موضوعاتهم التي يدرسونها غير قابلة للمشاهدة على المستويين الصغير جدا و الكبير جدا، وأصبح التفسير بالربط بين مجموعة القوانين بشبكة من العلاقات الرياضية، مستعينا بمفاهيم ابتكاريه مثل مفاهيم الكوانتم والدالة الموجية والمتصل المكاني الزماني وغيرها وهدفه توسيع دائرة الفهم على النحو الذي يتيح لنا اكتشاف مجالات أوسع للتطبيق. أما بالنسبة للتحقق فلم يعد يسري سوى على القوانين العلمية أما النظرية العلمية كبناء صوري منطقي فلا شان لها بالتحقق، ولا توصف بالصدق أو بالكذب ولكن الصواب أن نسأل: هل هي صحيحة أم غير صحيحة أي متسقة منطقيا من حيث مقدماتها وغير متناقضة مع القوانين التي جاءت لتفسيرها. ومع ذلك قد يوجد أكثر من نظرية مستوفاة لهذا الشرط المنطقي حينئذ تتفاضل النظريات من حيث بساطتها ومرونتها وجمالها وخصوبتها.[8] فهناك نظريات مثمرة تتيح لنا استنباط عدد من القوانين الجديدة غير تلك التي بدأت بها. وحينئذ فقط يمكننا الحديث عن التحقق من النظرية بشكل غير مباشر أي نتحقق من صدق القوانين المستنبطة منها أما من الناحية الإبستمولوجية، فقد فرضت طبيعة الموضوعات التي تدرسها فيزياء العلم المتناهي في الصغر، أن يحدث تطوير جذري في شكل ومعنى التجربة العلمية فقد أصبحت اليوم في الغالب تجربة ذهنية أو تخيلية وأصبح العقل والخيال العلمي هو معملها. أما أجهزتها فلا تتجاوز الورقة والقلم. و"هناك مثلان مشهوران على ذلك وهما تجربة بندقية الإلكترون عند هيزنبرغ والتي استخلص منها مبدأه عن اللاتحديد ثم تجربة المصعد عند اينشتاين والتي خرج منها بنظريته في الجاذبية أو النسبية العامة."[9]
[1] - محمد عبد الفتاح بدوي، فلسفة العلوم، مرجع سابق، ص.220
[2] - محمد عبد الفتاح بدوي، فلسفة العلوم، المرجع السابق، ص، ص.222-223
* في اشارة الى مدرسة كوبنهاجن التي تنكر الحديث عن الوجود الفعلي للمفاهيم الفيزيائية النظرية، ومدرسة برلين التي تتشبث بالسببية الكلاسيكية وبآراء بلانك ووبور حتى تثبت الوجود الفعلي للكائنات التي تشير إليها هذه المفاهيم
[3] - محمد عبد الفتاح بدوي، فلسفة العلوم، مرجع سابق، ص.226
[4] - هيزنبرغ فيرنر، المشاكل الفلسفية للعلوم النووية مرجع سابق ص، ص.95-96
[5] - موي بول، المنطق وفلسفة العلوم، تعر، فؤاد زكرياء، دار نهضة مصر، القاهرة، ب.ت، ص203
[6] -محمد عبد الفتاح بدوي، فلسفة العلوم، مرجع سابق، ص.232
* - في إشارة إلى الملاحظة والتجربة التي تتوسطهما الفرضية
[7] -زيدان محمود فهمي، الاستقراء والمنهج العلمي،دار الوفاء لدنيا الطباعة و النشر، الإسكندرية، ط 1، 2002م، ص،ص.135-155
[8] -المرجع نفسه، ص، ص، 158-159
[9] -محمد عبد الفتاح بدوي، فلسفة العلوم، مرجع سابق ص 236