-أزمة الفيزياء الكلاسيكية:

     مع نهاية القرن التاسع عشر ظهرت أزمة الفيزياء الكلاسيكية، ودلك عندما اصطدمت هده الفيزياء بظواهر وعلاقات في تجربة لا تتفق وصدقها النظري بحيث لم تتمكن من تفسير الكثير من الظواهر و بالتالي سقط التفسير الحتمي و ما يعرف بالحتمية الميكانيكية، فالظواهر الجديدة في مجال الكهربائية و المغناطيسية و المتعلق بالعالم المتناهي في الصغر كان بحاجة إلى تفسير قريب من الافتراض منه إلى التفسير الميكانيكي النيوتوني، فاتضح أن الفيزياء الكلاسيكية تصدق البحث على القياسات الثابتة و على الأشياء في حالة سكون يعني العالم العادي بينما العالم المتناهي في الكبر كالأجسام الكونية أو العالم المتناهي في الصغر الميكرو فيزياء تعجز عن تفسيره كما لا يمكنها حساب طرق القياس عندما تكون الأشياء في حالة حركة أو حين وجود مراقب متحرك وظاهرة متحركة معاً فمع الاكتشافات الجديدة تبين عجز الفيزياء الميكانيكية في تفسير الكثير من الظواهر مما أدي إلى ظهور نظرية فيزيائية جديدة تسمي بالنظرية النسبية لأينشتاين.

2-نظرية النسبية :

     هي الجزء المكمّل للثورة الفيزيائية الثانية، بمعنى إذا اعتبرنا فيزياء نيوتن هي الثورة الفيزيائية الأولى أي الثورة ضد فيزياء أرسطو، فان نظريتي الكوانتم والنسبية يؤلفان معا ما يعرف بالثورة الفيزيائية الثانية. وإذا كان المقصود بالثورة هو انقلاب جذري في تصور الإنسان للطبيعة وعلاقته بها، وكانت نظرية العلم الكلاسيكي وبالرغم من أن نيوتن هو صاحب العبارة المشهورة " أنا لا افترض فروضا"، فان الأساس المنطقي لنظريته في العلم يؤكد أن التجربة كانت عنده تحتل مكانة ثانوية بالنسبة للعقل، بدليل استناد نظريته بكليتها إلى تصور غير تجريبي هو المطلق وهكذا نفهم المعنى الثوري للفيزياء المعاصرة، فالقانون العلمي لا هو نتاج للعقل ولا هو موجود في الطبيعة  بل هو محصلة للتفاعل بينهما ومادام الإنسان قد أصبح جزءا من المعادلة ( اختياراته التجريبية، أجهزته وموضعه المكاني والزماني...) فيستحيل أن يكون القانون مطلقا، وهذا يعني أن نظرية النسبية ليست مجرد إضافة للفيزياء الكلاسيكية، ولكنها انقلاب ابستيمولوجي حقيقي يزيح من طريقه الركيزة الخاطئة ونقصد به مفهوم المطلق، الذي ترجمه نيوتن فيزيائيا بمفهوم الأثير* كمرجع ثابت ووسيطا للحركة ولنضرب على ذلك مثالا : فالقمر يتحرك بالنسبة للأرض، والأرض تتحرك بالنسبة للشمس، والشمس تتحرك بالنسبة لمركز المجرة، إذن كيف يمكن إجراء التحويلات الرياضية لمعادلات الحركة بين هذه النظم إلا إذا كانت جميعها تنتسب إلى مرجع واحد ثابت وكان هذا المرجع الموهوم هو الأثير وبذلك تتساوى تقديرات مختلف الملاحظين بالنسبة للزمان أو المكان أو الحركة بصرف النظر إن كان بعضهم على الأرض أو البعض الآخر في أقصى أطراف المجرة وهذا ما عناه نيوتن بالزمان و المكان المطلقين. كان من الضروري أن يفترض نيوتن انه لا بد أن يكون هناك في المناطق القاصية من الكون فيما وراء النجوم جسما في حالة سكون مطلق. ولكنه لاحظ أن كل ما في الكون حوله يتحرك، ولما رأى أن نظريته الميكانيكية مآلها الفشل  بدا لنيوتن أن الفضاء يمكن أن يقوم بدور ذلك الشيء ذي السكون المطلق لم يكن أمامه سوى افتراض وجود الأثير الثابت وهكذا تحولت الخرافة الميتافيزيقية إلى ضرورة علمية.

أ-تجربة مايكلسون ومورلى التي أثبت خرافة الأثير:

     "لكن لما جاءت تجارب مايكلسون، ومورلي الخاصة بقياس سرعة حركة الأرض في الأثير من خلال وضع حزمتين كهربائيتان الأولى في اتجاه حركة الأرض و الأخرى في اتجاه المعاكس فعوض أن نلاحظ أن سرعة الحزمة في اتجاه الأرض تكون أسرع من سرعة الحزمة المعاكسة تبين بأن كلا الحزمتين سرعتهما متساوية، فاستنتجت فرضيتين إما أن فكرة الأثير لا أساس لها من الصحة أو أن الأرض ثابتة لكن ثبت علميا أن الأرض تدور وعليه فأن فكرة الأثير فكرة ميتافيزيقية. هذه التجربة  وضعت أمام أينشتاين فرصة إعادة صياغة قواعد علم الميكانيكا الكونية على أسس تجريبية. وجاءت النتائج السلبية لهذه التجارب مثيرة لتساؤل أينشتاين، لماذا علينا الاحتفاظ بافتراض وجود شيء ما لا يمكن ملاحظته وبات على العلماء أن يختاروا بين بديلين فإما أن ينكروا وجود الأثير أو أن يقولوا أن الأرض ثابتة، ولما كان الاحتمال الثاني مستحيلا فقد تم التخلي عن الأثير بصفة نهائية من قائمة المفاهيم العلمية.وقد حل محله مفهوم استقلال الضوء عن المصدر وأصبحت سرعة الضوء تمثل ثابتا كونيا لا يزيد ولا ينقص ولم يعد المكان ولا الزمان مطلقان بل نسبيان"[1]

 ب-نسبية الزمان و المكان

    بناءا على هذه التجربة انكر انشتاين وجود الأثير، وهاجم الفكرة السائدة عن المكان المطلق و الزمان المطلق، لأن الكون مستمر الحركة لا يعرف السكون، وبما أن سرعة الضوء ثابتة استغرق وقتا أي أن لكل عالم زمانه المحلى الخاص به، و لا توصف حركة الكواكب و النجوم إلا بالنسبة لبعضها ولا يوجد في الفضاء اتجاه أسبق من اتجاه. فالزمن إذن ذاتي ولا يرتبط بمعايير محددة فلكل كوكب زمانه الخاص به فعطارد مثلاً يدور دورة حول نفسه و حول الشمس في وقت واحد، فالسنة و اليوم يتساويان على هذا الكوكب، وكلمة (الآن) لا معني لها إلا على الأرض، و الكوكب اللامع في السماء يبعد عنا 33 سنة ضوئية فإذا رأيناه الآن في مرصد فإننا نري شعاعه الذي وصلنا الآن بينما كان الكوكب قبل 33عام في هذا المكان. والنجمة القطبية التي نراها الآن هي في الحقيقة كانت في ذلك المكان قبل 470عاما بينما نري نحن ضوئها الآن. فكل من يتحرك بسرعة الضوء يعيش خارج الزمن ولا يسري عليه الزمن الذي نعرفه و بالتالي لا يعرف الشيخوخة، فلو أراد شخص عمره 12 عاما أن يقفز المستقبل و يسافر إلى مكان ما في الفضاء البعيد بسرعة تساوى 1/20000 من سرعة الضوء تم عادة في رحلة استغرقت أربعة ساعات فقط، فإنه سيجد أخاه التوأم الذي تركه وعمره 12عاما قد أصبح عمره 32عاما بينما بقى عمره 12عاما، من هنا أصبح الزمان نسبياً لا مطلقاً بحيث يري أينشتاين أنه يستحيل أن يكون هناك زمان أو مكان منفصلان عن الشيء المتحرك. فقد أصبح من المستحيل القول بانفصال المكان و الزمان بل هناك المتصل الزماني المكاني أو( الزمكان)، " فبعد استبعاد مفهوم الأثير... تحولت الحركة في النسبية الخاصة الى مفهوم نسبي وبذلك دخل الزمان دخولا موضوعيا في تقدير المكان ، نتيجة لدخول سرعة الضوء الثابتة في معادلة الطبيعة."[2] وكان من نتائج النسبية من الناحية الفلسفية اختفاء فكرة المطلق نهائيا من العلم الفيزيائي بعد انهيار أساسها المنطقي أي الأثير وأصبحت كل القوانين العلمية نسبية ليس بمعنى افتقارها للدقة بل بمعنى أن كل حقيقة علمية أصبحت تتوقف على حقيقة او حقائق أخرى ( سرعة الأرض بالنسبة للشمس) كما أن المادة لم تعد هي المقولة النهائية في الكون، وإنما أصبحت مجرد حالة من حالات مفهوم اشمل هو الطاقة وفقا لتكافؤ الكتلة والطاقة. (ط =ك*ع2) وهكذا أصبح من الممكن أن يتحول ما هو فيزيقي إلى ما هو غير فيزيقي بل وان الأجسام المتحركة يحدث لها تشوه في اتجاه حركتها وفقا لفرض فتزجيرالد ولورانتز عن التقلص أو الانكماش. وعليه فالواقع الفعلي ليس موضعا للدقة الكاملة.

   تقترب نظرية النسبية من روح الفلسفة منها إلى العلم بمعنى أن العلم يختص ببحث مشكلات جزئية محدد بحثا تجريبيا في حين ان نظرية النسبية تمثل نظرة كلية شمولية للكون وعلاقة الإنسان به ولتأكيد هذا المعنى يتساءل العلماء الرافضين للنسبية في أي فروع علم الفيزياء يمكننا تصنيف هذه النظرية ؟ فبالرغم من ان قوانين حركة الضوء هي حجر الزاوية فيها فهي لا تبحث في طبيعة الضوء وفي نفس الوقت ليست فرعا من علم الميكانيكا بالرغم من معالجتها مسائل في الديناميكا وهي أيضا لا تبحث في الطاقة ولا في البنية الذرية للمادة مع أنها تمس هذه الموضوعات بطريقة أو بأخرى، وبالتالي فهم يقرون بان نظرية النسبية تبحث في كل شيء يتعلق بالفيزياء ، دون ان تتخصص في شيء وهي بذلك اقرب أن تكون نظرية نقدية للمبادئ العامة للفيزياء الكلاسيكية منها للنظرية العلمية بمعناها الدقيق. مهما يكن الأمر، فقد كان اينشتاين شديد الثقة في صحة استدلالاته العلمية وفي النتائج التي توصل إليها بطريقة حيرت علماء مناهج البحث، فالنتائج الاستقرائية مهما بلغت من صدق فهي احتمالية أي يستحيل أن تصل إلى درجة اليقين المطلق، اذن ففيم ولم هذه الثقة المفرطة التي كان يطرح بها اينشتاين نظريته ؟ الواقع ان اينشتاين لم يكن يفكر كعالم تجريبي يصف الظواهر الطبيعية ثم يخضع فروضه للاختبار التجريبي فأما تصدق أو لا تصدق ، وإنما كان يفكر كعالم رياضي لا يعنيه الوصف في شيء مادامت موضوعات العلم فوق متناول الإدراك الحسي بل كان هدفه التفسير بحدود رياضية محضة و نسق استنباطي صوري تلزم فيه النتائج لزوما ضروريا عن مقدماتها ونقل عن اينشتاين انه بعث برسالة إلى احد أصدقائه قبل رصد الكسوف الكلي للشمس عام 1919.م* يقول فيها:" إنني الآن مقتنع تماما وليس لدي ادني شك في صحة النظرية كلها سواء نجحت مشاهدة الكسوف أم لم تنجح. إن روح الأمر واضحة لدي تمام الوضوح. وبعد رصد الكسوف ووصوله لنتيجة ايجابية لصالح نظريته أرسل إليه اللورد ادينجنتون (القائم بعملية الرصد) ببرقية عاجلة يهنئه فيها بنجاح التنبؤات التي انتهت اليها النظرية. فلما ناولته سكرتيرته البرقية ، عقب عليها اينشتاين بقوله:" ولكنني كنت اعلم أن النظرية صحيحة" فتعجبت السكرتيرة من قوله وسألته عما كان سيفعله فيما لو جاء الأمر على خلاف ذلك فأجابها قائلا :" كنت سأشعر بالأسى لعزيزي اللورد لخطأ قياساته، أما النظرية فصحيحة بلا ريب".[3] 

   ما يهمنا هنا- كما سبق وان قلنا- ليس المضمون العلمي لنظريات الفيزياء المعاصرة- على قلتها، وبساطتها وتعمد إيجازها في دراستنا- بل مضمونها الفلسفي او ما ترتب عنها في الدراسات الإبستيمولوجية، التي تتخذ العلم موضوعا لها، ومدى تأثير هذه النظريات في تفكير وتصورات فلاسفة العلم المعاصرين بحيث أصبحت فكرة النسبية مسيطرة على العقل العلمي و في كل المجالات المعرفة.

* الأثير كما تخيله علماء القرن التسع عشر ، هو عبارة عن مادة رقيقة تملا الفراغ الكوني ويقوم بالعديد من الوظائف اهمها كونه وسطا لانتقال الموجات الضوئية والكهرومغناطيسية غير ان وظيفته بالنسبة لفيزياء نيوتن كانت اهم ، وهي قيامه بدور المرجع او اطار الدلالة الثابت ثبوتا  مطلقا وبالتالي يسمح باجراء التحويلات الرياضية بين النظم الميكانيكية المتحركة بالنسبة لبعضها البعض بسرعة منتظمة. أنظر: محمد عبد الفتاح بدوي، فلسفة العلوم، دار قباء الحديثة، القاهرة، ب.ط،2007،ص239

[1] - عبد المحسن صالح، الإنسان و النسبية والكون، الهيئة المصرية العامة للتأليف و النشر،(د ط)(د س)،ص 20-21-22.

[2] -اينشتاين ألبرت، النسبية،النظرية الخاصة والعامة، تعر، رمسيس شحاتة ، دار نهضة  مصر، القاهرة، ب.ط، ب. ت، ص،ص 55-57

* - وهو الرصد الذي كان سيحدد مصير نظريته من القبول او الرفض وذلك بعد ان ظلت لأكثر من ثلاث سنوات مجرد نسق رياضي أجوف منذ 1916.م

[3] - محمد عبد الفتاح بدوي، فلسفة العلوم، مرجع سابق، ص، ص، 250-251


Modifié le: mardi 11 octobre 2022, 12:03