فلسفة الرياضيات من الهندسة الإقليدية إلى الهندسات اللاإقليدية
مقدمة :
تتميز العلوم فيما بينها من خلال اختلافها في معالجة المواضيع و إتباع المناهج فلكل علم موضوع و منهاج يحدد ملامح و خصوصيات الدراسة فيه ، فطبيعة الموضوع هي التي تحدد طبيعة المنهاج ، و بما أنَ الرياضيات عرفت تغيرات عدة مسَت بالدرجة الأولى الهندسة باعتبارها كمَا متصلاَ بحيث يهتم هذا الفرع بدراسة الأشكال المختلفة من طول و عرض و مساحات و دوائر ، و يتميز موضوع الهندسة بكونه كمَا عقليا مشخصا بين وحداته اتصالا و استمرارا ، فالكم المتصل { الهندسة } له علاقة بالمكان باعتباره الوسط الذي يدرس فيه موضوعاته و أشكاله الهندسية ، إلاَ أنَ الهندسة بصفة عامة عرفت تغيرات بسبب الثورة العلمية الَتي حدثت في مجال الهندسة ممَا أدى إلى ظهور أنساق هندسية متعددة ، فما هي هذه الأنساق و كيف تم التحوَل من نسق إلى آخر ؟
التعامل مع هذه الأشكال تستدعي منَا التطرَق إلى الهندسة الإقليدية و تبيان مسلَماتها و منطلقاتها ثم التطرَق إلى الهندسة اللَااقليدية سواءا تصوَر " لوباتشوفسكي " أو تصوَر " ريمان " .
- الهندسة الإقليدية : تنسب إلى " إقليدس " الَذي اعتمد في أكسيومته الهندسية على الطابع التجريبي و اعتبر أنَ المكان الهندسي مطابق للمكان الفيزيائي ، و القضايا الهندسية الَتي قدَمها تنطبق على المواضع الموجودة في العالم المحسوس ، و لذلك فالهندسة الإقليدية هي بمثابة فيزياء الأشكال المكانية ، استمدَت مصداقيتها من تلك المطابقة الخارجية للواقع.
بحيث يرى إقليدس أنَ المكان مستوي مسطَح و هذا تماشيا مع الواقع التجريبي الحسَي و أي نقطة خارج هذا المستقيم المسطَح يمرَ سوى موازي واحد لا غير ، و المثلث عنده يتشكَل من ثلاث أضلاع متساوية و كل زاوية مقدارها 60 درجة و بالتالي فإنَ مجموع زوايا المثلث تساوي 180 درجة.
هذا النموذج الَذي قدَمه إقليدس ظلَ لفترة طويلة يتميَز باليقين و الصرامة المنطقية و كان عنوانا لمصداقية كل نظرية رياضية معتمدة في ذلك عللا المبادئ الَتي وضعها إقليدس { التعريفات ، البديهيات ، و المصادرات } ، و بإتباع طرق البرهنة المنطقية الَتي ترتبط بالضرورة بالقضايا الَتي تنتج عنها تلك البرهنة لتكوَن نسقا متكاملا لا يقبل الحذف ، لذلك فإن النظرية الهندسية كما خلفها إقليدس لم يُنظر إليها فيما بعد على أنها نظرية البرهان و لذلك قال برانشفيج " ربما كان إقليدس بالنسبة للعديد من الأجيال اللَاحقة معلم منطق أكثر مما كان معلم هندسة " ، فالصرامة المنطقية الَتي تميَزت بها الهندسة الإقليدية جعلت منها نسقا مغلقا ينظر للحقيقة الرياضية كأنَها حقيقة مطلقة تستمد مطلقيتها من الصرامة المنطقية على حساب البداهة و الوضوح و الجمال ، من هنا بدأ الرياضيون يفصحون هندسة إقليدس ، فتبيَن أنَها تحمل عيوبا عديدة أدَت إلى ظهور إمكانية قيام هندسات مغايرة تتواجد جنبا إلى جنب دون رفض أو تنافر ، و كان ذلك تمهيدا لظهور الهندسات اللاَ إقليدية و كانت البداية مع تحليل المسلَمة الخامسة { مسلَمة التوازي } .
أ-ظهور الهندسات اللاإقليدية: المقصود بالهندسات اللاإقليدية كل الأنظمة الهندسية التي تخالف هندسة إقليدس، ولقد تمثل هذه الأنظمة الهندسية في كل من نظام هندسة ريمان ولوباتشفوسكي و اخرون.
كيف كانت البداية: بدأت من خلال إثارة مشكلة التوازي في نظام إقليدس وهي المسلمة الخامسة التي تم تبيانها سابقاً، ففي العشرينيات من القرن التاسع عشر حصلت انعطافة كبيرة في النظر إلى هذه المشكلة تمثلت في عمل كل من غاوس ولوباتشفوسكي، وبلياي، حيث افترض هؤلاء فرضية مفادها: "إذا كان هناك خط مستقيم ونقطة خارجة على سطح مستوي، فإن هناك أكثر من خط مستقيم يمر في هذه النقطة و يكون موازياً للخط المستقيم، بمعني لا يتقاطع معه مهما امتدت هذه الخطوط المستقيمة وحاولوا بناء هندسة متكاملة بناء على هذا التعديل في نظام إقليدس، وكان هدفهم من ذلك أن يبينوا ضرورة مصادرة التوازي ببيان استحالة نظام هندسي منطقي متكامل من دونها، لذلك توقعوا أن يوصلهم افتراضهم الجديد إلى طرق منطقية مسدودة وإلى تناقضات منطقية تفجر نظمهم الجديدة من داخلها، لكن النتيجة كانت عكس ذلك إذ توصلوا إلى نظم هندسية منطقية ومنسجمة مع ذاتها ولا تقل تماسكاً عن نظام إقليدس الهندسي"[1]، مما يوحي بوجود أنظمة هندسية أخرى متماسكة منطقياً ومخالفة لمنظومة إقليدس.
من هنا تبين وجود أنساق متعددة من الهندسيات كل واحدة تحمل نظاماً منطقياً خاص بها.
أ-1 هندسة إقليدس:
المكان: مستوي مسطح
لا يمر خارج المستقيم سوي موازي واحدM موازي لـ(D)
مجموع زوايا المثلث =180 0
هندسة لوباتشفسكي: يري لوباتشفسكي أن لا يوجد أي برهان عقلي يؤكد أن المكان الهندسي مطابق للمكان الفيزيائي، مشيرا إلى الهندسة الدائرية التي توصل إليها مخالفاً بذالك ما جاء بع إقليدس، فالهندسة لم تعد مجرد نظرية تعكس العالم الحسي الخارجي بل أصبحت أكسيومات قائمة على افتراضات منطقية مجردة.
المكان: مقعر
من نقطة خارج المستقيم يمكن رسم عدد لا متناهي من المستقيمات المتوازية لهذا المستقيم.
مجموع زوايا المثلت أقل من 180 0
"وكلما صغرت مساحة المثلث قل حجم الزوايا عن القائمتين وكلما زادت مساحته زاد حجمها على ألا تصل إلى قائمتين. ولم يلاحظ تناقضاً في هذه المبادئ و غيرها من نسق لوباتشفوسكي، فالاتساق المطلوب هنا لا يستند إلى المعطيات الحسية الفيزيائية كما تنص عليه هندسة إقليدس بل تستند إلى قواعد الاستنباط المنطقي فقط"[2].
هندسة ريمان: يتفق ريمان مع لوباتشفوسكي في أن المكان الهندسي ليس مطابق للمكان الفيزيائي فهو ليس سطحاً مستوياً لكن يختلف معه في التصور بحيث قدم ريمان هندسة مخالفة لكل من إقليدس و لوباتشفوسكي، فأسس ما يسمي بالهندسة الدائرية.
المكان : كروي ودرجة انحناءه أكبر من الصفر
الخط المستقيم لا يمتد إلى ما لانهاية، وإنما هو متناهي لأنه دائري، وأن زوايا المثلث الداخلة أكثر من قائمتين دائماً ويزداد حجم الزوايا كلما زادت مساحة المثلث.
لا يمر أي موازي للمستقيم.
مجموع زوايا المثلث أكبر من 180 0
[1] -هشام غصيب، هل نشأ الكون من عدم؟ المضمون الفكري لنظرية النسبية لأينشتاين(الأسس و المبادئ والاختبارات الأولى)، دار الفارس للنشر و التوزيع، عمان الطبعة العربية الأولى، 1999م، ص47،ص48.
[2] - إبراهيم مصطفي إبراهيم، في فلسفة العلوم، مرجع سابق، ص87.