الإرشاد النفسي من المنظور التاريخي
تمهيد:
لقد كان الإرشاد النفسي موجودا ويمارس منذ القدم إلا أنه لم يكن له إطار علمي ولم تكن هناك علاقة مهنية
تجمع بين المرشد والمسترشد، وبمرور الوقت تطور هذا المفهوم وأخذ مكانته وأصبح علما قائما بذاته له أساليبه
و نظرياته وبرامجه،ويقدم خدمات نفسية في شتى المجالات بعد أن كان مقتصرا على المجال المهني فقط.و لعل
هذا التطور لم يأتي من العدم بل جاء استجابة لتعقد ظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتقدم العلمي
والتكنولوجي الذي شهده العالم في العصر الحاضر و جعل من عملية الإرشاد النفسي ضرورة حتمية لابد منها،
حيث يشير الإرشاد النفسي إلى العلاقة المهنية التي تجمع فردين أحدهما مختص ومؤهل أخذ على عاتقه مسؤولية
المساعدة الإيجابية لفرد آخر مثقل بالمشاكل يطلب المساعدة وبحاجة لخدمات نفسية حتى يعرف نفسه و يفهم ذاته
ويصل إلى حلول لمشكلاته.
1- التطور التاريخي للإرشاد النفسي:
تمتد أصول الإرشاد النفسي حسب (Borow,1964) إلى القرن الماضي 1850 وأن أول ذكر للإرشاد بمعناه
الحديث ورد عام 1931.وقد ظهر مصطلح علم النفس الإرشادي والمرشد النفسي Counsoler لأول مرة
عام 1951 في مؤتمر عقدته لجنة متخصصة قبيل انعقاد المؤتمر السنوي للرابطة الأمريكية للمشتغلين بعلم
النفس،حيث ارتبطت نشأة وتطور الإرشاد النفسي بثلاث حركات تاريخية أساسية،يسميها البعض تجاوزا (مراحل)
رغم أنها ليست كذلك لأنها جاءت متداخلة زمنيا.وهي حركة التوجيه التربوي،وحركة التوجيه المهني،وحركة
الصحة النفسية والتكيف،وقد كان الإرشاد النفسي مصاحبا لهذه الحركات،حيث بدأ منذ ثلاثينيات القرن العشرين،
يتمايز عن الإرشاد المهني والإرشاد التربوي.
1.1- حركة التوجيه التربوي:
بدأت تلك الحركة منذ إنشاء أول عيادة نفسية في ولاية بنسلفانيا الأمريكية عام 1896،لعلاج التلاميذ المتأخرين
دراسيا،ثم امتد نشاطها ليشمل حالات التخلف العقلي واضطرابات الكلام،كما اهتمت كذلك بالتوجيه المهني،وكانت
نواة للعديد من العيادات النفسية التي انتشرت فيما بعد في أرجاء الو.م.أ(المالكي،2005،ص14) ومنذ بداية
العشرينيات من القرن العشرين،أصبح الإرشاد التربوي أكثر تطورا وعمقا مما سبق،حيث أنشأت مكاتب متخصصة
في تقديم الخدمات الشخصية للطلبة العاديين،مستفيدة في ذلك من نظريات ومعطيات علم النفس في تحسين العملية
التربوية. كما ازداد الاهتمام بالتلاميذ غير الأسوياء سلوكيا،خاصة بعد أن ابتكر"ألفريد بينه" في عام 1905 أول
اختبار للذكاء للتعامل مع ظاهرة التأخر الدراسي والتخلف العقلي،مما كان له أثره في توجيه علماء النفس نحو
دراسة هذه الظاهرة،وتنظيم بعض الجهود الإرشادية للتلاميذ المتأخرين دراسيا، والاهتمام بعلاج مشكلات سوء
التوافق في كل من الأسرة والمدرسة.
2.1- حركة التوجيه المهني:
ظهرت في الو.م.أ مع نهايات العقد الأول من القرن العشرين.واستهدفت إرشاد الناس إلى المهن المناسبة
والمتاحة،ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى ظهرت أعداد ضخمة من الجنود العائدين الذين يبحثون عن فرص
عمل،دون امتلاك معظمهم للخبرة والتخصص(المالكي موزة،2005،ص15)،حيث كانت حركة التوجيه المهني
خلال فترة الكساد الاقتصادي في الثلاثينيات تمثل مهد حركة التوجيه والإرشاد.فقد نشأ التوجيه المهني عام
1909 على يد "فرانك بارسونز F.Parsons"الذي يعتبر المؤسس الأول له في أمريكا. ويعتقد بارسونز
بأن الأفراد يستطيعون اتخاذ قرارات مهنية صحيحة،إذا كانت لديهم معلومات دقيقة عن قدراتهم وسماتهم
الشخصية وشروط النجاح في المهن المختلفة ولقد وضع شرطين أساسيين للتوجيه المهني يتمثلان في:
أ- وجود دراسة للفرد ومعرفة قدراته واستعداداته وميوله.
ب- تزويده بالمعلومات الكافية عن المهن المختلفة،وما تتطلبه هذه المهن من استعدادات وميول،حتى يستطيع
أن يختار من بينها المهنة التي تناسبه.(العزة وعبد الهادي،2014،ص18).
3.1- حركة الصحة النفسية والتكيف:
أما هذه الحركة فقد كان لها تأثيرها الواضح على مجال الإرشاد،وإضفاء الصبغة العلمية عليه في البحث
والممارسة،حيث بدأت هذه الحركة متزامنة مع علم النفس التجريبي منذ نهايات القرن التاسع عشر،واهتمت في
البداية بقياس القدرات العقلية والذكاء،ثم تطورت لتشمل كافة جوانب الشخصية،وظهرت ممارسات إرشادية
متخصصة مرتبطة بمتطلبات تحقيق الصحة النفسية،وعكف علماء النفس على إعداد الاختبارات والمقاييس التي
تقيس الجوانب السوية والمرضية في شخصية الفرد،وظهرت مقاييس خاصة بالعملية الإرشادية،كما نشأت
مؤسسات علمية وجهات نشر تُعنى بالمقاييس والاختبارات النفسية بشكل عام،مما أتاح للمرشدين ضمان درجة
عالية من الدقة في المعلومات المطلوبة لجوانب عملية الإرشاد.ومع هذا التطور،أصبح الإرشاد النفسي يهتم بالصحة
النفسية بوجه عام للأسوياء وغير الأسوياء،أيا كان موقعهم في مرحلة النمو أو في المجال المهني،كما ازداد اهتمام
الإرشاد بفهم الفرد سعيا إلى تحقيق توافقه وتكيفه مع مجتمعه المتغير والمتطور،سواء على مستوى الأسرة أو
العمل أو الدراسة.لقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تطورا متسارعا وطفرة نوعية في ميدان
الإرشاد،فقد ظهرت مقاربات واتجاهات حديثة مستفيدة من الأطر والمرجعيات الكلاسيكية، ولعل من بين هذه
الإسهامات الفكرية في هذا الميدان ما جاء به الفكر الوجودي والإنساني،حيث أصدر كارل روجرز كتابه
المعنون "علم النفس الإرشادي والعلاج النفسي" سنة 1942،كما كتب عام 1951 "العلاج المتمركز
حول العميل". ومن إسهامات الاتجاه الإنساني ما طرحه إبراهام ماسلو ضمن ما يعرف بهرم الحاجات
الإنسانية مؤكدا على أن للفرد حاجات فسيولوجية ونفسية يحتاج لإشباعها وتعمل كمحرك ودافع للسلوك.
وبهذا التطور المتواصل،أصبح الإرشاد النفسي تخصصا أكاديميا أصيلا ومتناميا في الجامعات.كما أصبح مهنة
لها أصولها وقواعدها التي تنظمها،كما تعددت وسائل الإرشاد النفسي وطرائقه ومجالاته،وتطورت كذلك إمكانات
الجهات التي تؤدي خدمات الإرشاد سواء من حيث التكنولوجيا المستخدمة أو من حيث الكوادر البشرية المؤهلة.
(المالكي،2005،ص15).